السؤال
شخص آذاه الناس فنصحته بمسامحتهم، وقلت له: سيعطيك الله أجرك على مسامحتهم، ولكنه يقول إنه يريد أن يقتص منهم في الآخرة, لأنه في الدنيا قد يأخذ حسنات مضاعفة لكنه لن يضر من ضره، وفي الآخرة سيأخد من حسنات من آذاه، وكما يقول: أن آخذ حسنات قليلة وأضر من ضرني أفضل لي من أن آخذ حسنات كثيرة وأسامحه، فكيف أنصح هذا الشخص؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العفو مندوب إليه في الشرع ومرغب فيه، كما قال سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:40}.
وكما قال سبحانه في ذكر خصال المتقين: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {آل عمران:134}.
وانظر المزيد من فضائل العفو الفتوى رقم: 27841.
لكن العفو مع فضله ليس بفرض، فقد أذن الشرع للمظلوم أن يقتص من ظالمه بقدر مظلمته، دون زيادة، قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ {البقرة:194}.
قال الإمام ابن تيمية: فإن كان الشخصان قد اختصما نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما كان المظلوم بالخيار بين الاستيفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه أو يلطمه كما فعل به عند جماهير السلف وكثير من الأئمة وبذلك جاءت السنة، وقد قيل: إنه يؤدب ولا قصاص في ذلك، وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله أو على غير الظالم، فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبا لم يكن له أن يفتري عليه كذبا، لأن الكذب حرام لحق الله كما قال كثير من العلماء في القصاص في البدن: أنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل، فهذا أصح قولي العلماء إلا أن يكون الفعل محرما لحق الله كفعل الفاحشة أو تجريعه الخمر فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك. اهـ.
وانظر الفتوى رقم: 57954.
والمظلوم إن لم يقتص من ظالمه في الدنيا ولم يعف عنه فإنه يُقتَص له منه في الآخرة، كما في صحيح البخاري: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار. أخرجه مسلم.
وراجع الفتوى رقم: 54580.
فينبغي تذكير الأخ بفضائل العفو التي سبق ذكرها، مع حضه على التأسي بأحوال السلف في الصفح والتجاوز، ومن عيون الأخبار في ذلك ما جاء عن الإمام أحمد في عفوه عمن عذبوه في فتنة خلق القرآن، قال ابن كثير: وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: وليعفوا وليصفحوا ـ ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ـ وينادي المنادي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا ـ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله. اهـ.
والله أعلم.