الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الموظف -مديرا كان أو غيره- وكيل عن صاحب العمل، والوكيل أمين، ولا يملك من التصرف إلا ما أذن له الموكل فيه، ولا يحل للوكيل مخالفة أمر الموكل.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله، من جهة النطق، أو من جهة العرف؛ لأن تصرفه بالإذن، فاختص بما أذن فيه. اهـ.
وقد أحسنت في إنكارك على المدير مخالفته لصاحب المصنع، ونصحك له بالكف عن مكره ذلك، وما دام المدير لم ينتصح، فالأصل أنه يشرع لك نصح صاحب المصنع بإبلاغه بصنيع المدير، اتباعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». أخرجه مسلم.
وليس مثل هذا الإخبار من النميمة المحرمة، بل هو من النصيحة المشروعة، وقد ترجم البخاري في صحيحه: (باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه) وأسند تحته حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعر وجهه، وقال: «رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
قال ابن حجر: أراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، ثم حلم عنه، وصبر. اهـ.
وقال أيضا: المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، وأما من يقصد النصيحة، ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى، فلا. اهـ. من فتح الباري.
وجاء في بريقة محمودية -عن النميمة-: (وفي الأكثر تطلق على نقل القول المكروه، إلى المقول فيه، وهي حرام) (إلا أن يكون له) للمقول له (ضرر فيه) في ذلك القول (ولم يعلمه) أي المقول فيه الضرر (ولم يمكن دفعه إلا بالإعلام، فيجب) حينئذ الإعلام (لأنه نصح) واجب. اهـ.
لكن إن خشيت ضررا من إخبارك لصاحب المصنع، فإنه لا يجب عليك، فإن إنكار المنكر يسقط وجوبه بخشية الضرر.
جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: وقال -ابن عقيل- أيضا: من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف، وكذا قاله جمهور العلماء -رضي الله عنهم-.وحكى القاضي عياض عن بعض وجوب الإنكار مطلقا في هذه الحال وغيرها، وعن أبي سعيد مرفوعا: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله عز وجل عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل: ما منعك أن تقول فيه، فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول: فأنا أحق أن يخشى. وفي رواية: لا يمنعن أحدكم هيبة الناس، أن يقول في حق الله عز وجل إذا رآه، أو شهده، أو سمعه» رواهما أحمد وابن ماجه. وزاد: فبكى أبو سعيد، وقال: والله قد رأينا أشياء، فهبنا.
ولهما من حديثه: «إن أحدكم ليسأل يوم القيامة، حتى يكون فيما يسأل عنه أن يقال: ما منعك أن تنكر المنكر إذا رأيته؟ فمن لقنه الله حجته، قال: يا رب رجوتك، وخفت الناس».
وعن حذيفة مرفوعا: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح.
قال ابن الجوزي: فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت؛ لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب، وظاهر كلام غيره أنه عذر؛ لأنه أذى، ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا. اهـ. باختصار.
وقال النووي في شرح مسلم: وأما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه، ولم يخف ضررا. اهـ.
لكن على كل حال: لا يجوز لك أبدا مشاركة المدير في احتياله، ومخالفته لصاحب المصنع، سواء بالكذب على صاحب المصنع، أو بغير ذلك.
وراجع الفتوى رقم: 182901، والفتوى رقم: 317287 .
والله أعلم.