الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه لا حرج في الموعظة قبل الدفن أحيانًا، ولا سيما إذا تأخر الدفن؛ لثبوت ذلك في السنة.
وفي الحديث عن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى، ثم قال: يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا. رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وغيرهم، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر -مرتين أو ثلاثًا- ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل عليه من السماء ملائكة بيض الوجوه... إلى آخر الحديث الطويل.
وقد سئل العلامة الشيخ ابن عثيمين عن الموعظة بصفة دائمة على القبر، ما حكمها؟
فقال في الجواب: الذي أرى أنها خلاف السنة؛ لأنها ليست على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو أنصح الخلق للخلق، وأحرصهم على إبلاغ الحق، ولم نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظ على قبر قائمًا يتكلم كما يتكلم الخطيب أبدًا، إنما وقع منه كلمات، مثل: ما وقع منه حين انتهوا إلى القبر ولما يلحد، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلس الناس حوله، فجعل ينكُتُ بمخصرة معه بالأرض، ويحدثهم ماذا يكون عند الموت.
هذه واحدة، وهذه ليست خطبة، ما قام خطيبًا في الناس يعظهم، ويتكلم معهم أبدًا.
ثانيًا: حينما كان قائمًا على شفير القبر، قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار، فقالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له).
وأما أن يُتَّخَذ هذا عادة، كلما دُفِن ميتٌ قام أحد الناس خطيبًا يتكلم، فهذا ليس من عادة السلف إطلاقًا، وليُرْجَع إلى السنة في هذا الشيء، وأخشى أن يكون هذا من التنطُّع؛ لأن المقام في الحقيقة مقام خشوع وسكون، وليس مقام إثارة للعواطف، ومواضع الخطبة هي المنابر والمساجد، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا، ولا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم؛ فلو قال قائل: سنجعل حديث علي حينما وقف على شفير القبر، وكذلك الحديث الآخر حينما جلس ينتظرون أن يلحد القبر وتحدث إليهم، لو قال قائل: نريد أن نجعله أصلًا في هذه المسألة، قلنا: لا يصح هذا الأصل؛ لأنه لو كان أصلًا في هذه المسألة لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما تركه كان تركه هو السنة. اهـ.
والله أعلم.