الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شهادة القَسامة

شهادة القَسامة

شهادة القَسامة

في الفقه باب يسمى بـ (القَسامة) بفتح القاف، وهي في الاصطلاح الفقهي أن يُقتل أحدٌ في محلة ما، ولم يُعرف قاتله، وبين المقتول وهذا الحي جراحات ومطالبات بالأحقاد، فإذا وُجد الرجل قتيلاً في محلة قوم، فعليهم أن يُقْسِم منهم خمسون رجلاً بالله: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، ثم يغرمون الدية. وقد ورد في القرآن الكريم حكم هذه المسألة، وذلك قوله سبحانه:

{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين * فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} (المائدة:106-108).

والحديث في هذه السطور متجه لبيان سبب نزول هذه الآية.

أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاءٍ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاماً -أي إناء- من فضة، مُخَوَّصاً -أي منقوشاً- من ذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وُجِدَ الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعديٍّ، فقام رجلان من أوليائه، فحلفا: {لشهادتنا أحق من شهادتهما} وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}.

وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث، منهم: الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي، وابن عاشور.

قال ابن عطية: "لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية، أن تميماً الداري، وعدي بن بَدَّاءٍ كانا نصرانيين" ثم ساق الحديث.

وقال القرطبي: "ولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري، وعدي بن بَدَّاء".

وقال السعدي: "وهذه الآيات الكريمة، نزلت في قصة تميم الداري، وعدي بن بَدَّاء المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم".

وقال ابن عاشور: "وقد حدثت في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية" وذكر كلاماً إلى أن قال: "ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية، وهي أن رجلين أحدهما تميم الداري، والآخر عدي بن بَدَّاء".

وحيث إن السبب المذكور في الحديث مختصر، لا يتحقق بقراءته فهم القصة، كان الأنسب والأليق ذكر القصة كما سردها الطاهر بن عاشور في تفسيره، حيث قال:

"كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية: هي أن رجلين، أحدهما: تميم الداري اللخمي، والآخر: عدي بن بَدَّاء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل دارين، وكانا يتجران بين الشام، ومكة، والمدينة. فخرج معهما من المدينة بُزَيْلٌ بن أبي مريم، مولى بني سهم -وكان مسلماً- بتجارة إلى الشام، فمرض بُزَيْلٌ (قيل: في الشام. وقيل: في الطريق برًّا، أو بحراً) وكان معه في أمتعته جام من فضة، مخوص بالذهب، قاصداً به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة، فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال، ودسها في مطاوي أمتعته، ودفع ما معه إلى تميم وعدي، وأوصاهما بأن يبلغاه مواليه من بني سهم، وكان بُزَيْلٌ مولى للعاصي بن وائل السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو بن العاصي.

وبعض المفسرين يقول: إن ولاء بُزَيْلٌ لعمرو ابن العاصي والمطلب بن وداعة، ويؤيد قولهم أن المطَّلِب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبُزَيْل بن أبي مريم. فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم، ورجعا إلى المدينة، فدفعا ما لبُزَيْل إلى مواليه. فلما نشروه وجدوا الصحيفة، فقالوا لتميم وعدي: أين الجام؟ فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاماً. ثم وُجِدَ الجام بعد مدة يباع بمكة، فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال: إنه ابتاعه من تميم وعدي.

وفي رواية أن تميماً لما أسلم في سنة تسع، تأثم مما صنع، فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام، ودفع إليه الخمسمائة درهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عديًّا ببقية الثمن، فأنكر أن يكون باعه.

قال ابن عاشور: "وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية..." إلى أن قال: "واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميماً وعديًّا أخفيا الجام، وأن بُزَيْلاً صاحبه، وما باعه ولا خرج من يده، ودفع لهما عدي خمسمائة درهم، وهو يومئذ نصراني).

وحاصل ما ذُكر في سبب نزول هذه الآيات، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مَظِنَّة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما. ولكن لأجل كفرهما، فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما، فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة: أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيَّرا، ولا بدَّلا، فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما. فإن لم يصدقوهما، ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين؛ فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله: لشهادتنا أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدَّعون.

وختام القول: إن سبب النزول المذكور في قصة تميم الداري وعدي بن بّدَّاء، كان سبباً لنزول الآيات الكريمات؛ وذلك لصحة إسناده، وموافقة سياقه لظاهر الآيات، واحتجاج المفسرين به، وتعويلهم عليه. {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} (الأحزاب:4).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة