ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب الله عز وجل
قال الله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) إلى قوله : ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) [ الطلاق : 1 - 3 ] فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساك والتسريح بأن لا يخرجوا أزواجهم من بيوتهم ، وأمر أزواجهن أن لا يخرجن ، فدل على جواز ، فإنه سبحانه ذكر لهؤلاء المطلقات أحكاما متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض . إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق
أحدها : أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن .
والثاني : أنهن لا يخرجن من بيوت أزواجهن .
والثالث : أن لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل ، وترك الإمساك ، فيسرحوهن بإحسان .
[ ص: 470 ] والرابع : إشهاد ذوي عدل ، وهو إشهاد على إما وجوبا وإما استحبابا وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك ، وأنه في الرجعيات خاصة بقوله : ( الرجعة لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا : هو المراجعة . هكذا قال السلف ومن بعدهم ، قال : حدثنا ابن أبي شيبة أبو معاوية عن داود الأودي عن : ( الشعبي لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) قال : لعلك تندم فيكون لك سبيل إلى الرجعة ، وقال الضحاك : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) قال : لعله أن يراجعها في العدة ، وقاله عطاء وقتادة والحسن ، وقد تقدم قول : أي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فهذا يدل على أن الطلاق المذكور هو الرجعي الذي ثبتت فيه هذه الأحكام ، وأن حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين اقتضته ؛ لعل الزوج أن يندم ويزول الشر الذي نزغه الشيطان بينهما فتتبعها نفسه فيراجعها كما قال فاطمة بنت قيس - رضي الله عنه - " لو أن الناس أخذوا بأمر الله في الطلاق ما تتبع رجل نفسه امرأة يطلقها أبدا . علي بن أبي طالب
ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) [ الطلاق : 6 ] فالضمائر كلها يتحد مفسرها وأحكامها كلها متلازمة ، وكان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ) مشتقا من كتاب الله عز وجل ومفسرا له وبيانا لمراد المتكلم به منه ، فقد تبين اتحاد قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتاب الله عز وجل ، والميزان العادل معهما أيضا لا يخالفهما ، فإن النفقة إنما تكون للزوجة ، فإذا بانت منه صارت أجنبية ، حكمها حكم سائر الأجنبيات ، ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه ، وذلك لا يوجب لها نفقة ، ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع ، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها ، ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله ولا فرق بينهما ألبتة ، فإن كل واحد منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه قد تعذر منهما الاستمتاع ، ولأنها لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة كما [ ص: 471 ] يقوله من يوجبها . فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه ، وهذا قول كالموطوءة بشبهة أو زنى وأصحابه عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله إحدى فقهاء نساء الصحابة ، وكانت وفاطمة بنت قيس فاطمة تناظر عليه ، وبه يقول وأصحابه أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وأصحابه وسائر أهل الحديث . وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : هذا . والثاني : أن لها النفقة والسكنى ، وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود وفقهاء الكوفة . والثالث : أن لها السكنى دون النفقة ، وهذا مذهب أهل المدينة وبه يقول مالك . والشافعي