قوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ قال : لما كانت معرفة ديانات الناس؛ وأماناتهم؛ وعدالتهم؛ إنما هي من طريق الظاهر؛ دون الحقيقة؛ إذ لا يعلم ضمائرهم؛ ولا خبايا أمورهم؛ غير الله (تعالى)؛ ثم قال الله (تعالى) - فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود -: أبو بكر ممن ترضون من الشهداء ؛ دل ذلك على أن أمر موكول إلى اجتهاد رأينا؛ وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم؛ وصلاح طرائقهم؛ وجائز أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهد؛ وأمانته؛ فيكون عنده رضا؛ ويغلب في ظن غيره أنه ليس برضا؛ فقوله: تعديل الشهود ممن ترضون من الشهداء ؛ مبني على غالب الظن؛ وأكثر الرأي؛ ؛ أحدها العدالة؛ والآخر نفي التهمة؛ وإن كان عدلا؛ والثالث التيقظ؛ والحفظ؛ وقلة الغفلة؛ أما العدالة فأصلها الإيمان؛ واجتناب الكبائر؛ ومراعاة حقوق الله - عز وجل - في الواجبات؛ والمسنونات؛ وصدق اللهجة؛ والأمانة؛ وألا يكون محدودا في قذف؛ وأما نفي التهمة فألا يكون المشهود له والدا؛ ولا ولدا؛ أو زوجا؛ أو زوجة؛ وألا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة؛ فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا؛ وإن كانوا عدولا مرضيين؛ وأما التيقظ؛ والحفظ؛ وقلة الغفلة؛ فألا يكون غفولا؛ غير مجرب للأمور؛ فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه؛ وربما جوز عليه التزوير فشهد به؛ قال والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة ابن رستم؛ عن - في رجل أعجمي؛ صوام؛ قوام؛ مغفل؛ يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به -: "هذا شر من الفاسق في شهادته"؛ وحدثنا محمد بن الحسن عبد الرحمن بن سيما المحبر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا ابن هلال؛ عن أشعث الحداني قال: قال [ ص: 234 ] رجل : يا للحسن ; إن أبا سعيد إياسا رد شهادتي؛ فقام معه إليه؛ فقال: "يا ملكعان؛ لم رددت شهادته؟ أوما بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: فقال: "أيها الشيخ; أما سمعت الله يقول: (من استقبل قبلتنا؛ وأكل من ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله؛ وذمة رسوله)؟"؛ ممن ترضون من الشهداء ؟ وإن صاحبك هذا ليس نرضاه".
وحدثنا قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع أبو بكر ؛ محمد بن عبد الوهاب؛ قال: حدثنا السري بن عاصم - بإسناد ذكره - أنه شهد عند رجل من أصحاب إياس بن معاوية فرد شهادته؛ فبلغ الحسن؛ وقال: "قوموا بنا إليه"؛ قال: فجاء إلى الحسن؛ إياس فقال: "يا لكع; ترد شهادة رجل مسلم ؟"؛ فقال: "نعم؛ قال الله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ وليس هو ممن أرضى"؛ قال: فسكت فقال خصم الشيخ: "فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا؛ حافظا لما يسمعه؛ متقنا لما يؤديه"؛ وقد ذكر الحسن؛ عن بشر بن الوليد في أبي يوسف أشياء؛ منها أنه قال: "من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود؛ وما يشبه ما تجب فيه من العظائم؛ وكان يؤدي الفرائض؛ وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار؛ قبلنا شهادته; لأنه لا يسلم عبد من ذنب؛ وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته؛ ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج؛ يقامر عليها؛ ولا من يلعب بالحمام ويطيرها؛ وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته"؛ قال: "وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافا بذلك؛ أو مجانة؛ أو فسقا؛ فلا تجوز شهادته؛ وإن تركها على تأويل؛ وكان عدلا فيما سوى ذلك؛ قبلت شهادته"؛ قال: "وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته؛ وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته؛ وإن كان لا يعرف بذلك؛ وربما ابتلي بشيء منه والخير فيه أكثر من الشر؛ قبلت شهادته؛ ليس يسلم أحد من الذنوب"؛ قال: وقال صفة العدل ؛ أبو حنيفة وأبو يوسف؛ : " وابن أبي ليلى جائزة إذا كانوا عدولا؛ إلا صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية؛ فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا فيما يدعي إذا حلف له؛ ويشهد بعضهم لبعض؛ فلذلك أبطلت شهادتهم"؛ وقال شهادة أهل الأهواء "أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أقبل شهادته; لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران؛ لم أقبل شهادته؛ فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم حرمة"؛ وقال أبو يوسف: "ألا ترى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا؛ واقتتلوا؛ وشهادة الفريقين جائزة; لأنهم اقتتلوا على تأويل؟ فكذلك أهل الأهواء من المتأولين"؛ قال أبو يوسف: "ومن سألت عنه فقالوا: إنا نتهمه بشتم أصحاب [ ص: 235 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإني لا أقبل هذا؛ حتى يقولوا: سمعناه يشتم"؛ قال: "فإن قالوا: نتهمه بالفسق؛ والفجور؛ ونظن ذلك به؛ ولم نره؛ فإني أقبل ذلك؛ ولا أجيز شهادته؛ والفارق بينهما أن الذين قالوا: نتهمه بالشتم؛ قد أثبتوا له الصلاح؛ وقالوا: نتهمه بالشتم؛ فلا يقبل هذا إلا بسماع؛ والذين قالوا: نتهمه بالفسق والفجور؛ ونظن ذلك به؛ ولم نره؛ فإني أقبل ذلك؛ ولا أجيز شهادته؛ أثبتوا له صلاحا وعدالة"؛ وذكر أبو يوسف: ابن رستم عن محمد أنه قال: "لا أقبل شهادة الخوارج؛ إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين؛ وإن شهدوا"؛ قال: قلت: ولم لا تجيز شهادتهم؛ وأنت تجيز شهادة الحرورية؟ قال: "لأنهم لا يستحلون أموالنا؛ ما لم يخرجوا؛ فإذا خرجوا استحلوا أموالنا؛ فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا"؛ وحدثنا أبو بكر ؛ مكرم بن أحمد ؛ قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت يقول: سمعت أبا يوسف يقول: لا يجب على الحاكم أن يقبل أبا حنيفة ؛ فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي؛ فيأخذ فوق حقه؛ مخافة الغبن؛ ومن كان كذلك لم يكن عدلا؛ سمعت شهادة بخيل حماد بن أبي سليمان يقول: سمعت إبراهيم يقول: قال - رضي الله عنه -: "أيها الناس; كونوا وسطا؛ لا تكونوا بخلاء؛ ولا سفلة؛ فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه؛ وإن كان لهم حق استقصوه"؛ قال: وقال: "ما من طباع المؤمن التقصي؛ ما استقصى كريم قط؛ قال الله (تعالى): علي بن أبي طالب عرف بعضه وأعرض عن بعض "؛ وحدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال: سمعت الحماني يقول: سمعت يقول: سمعت ابن المبارك يقول: "من كان معه بخل لم تجز شهادته؛ يحمله البخل على التقصي؛ فمن شدة تقصيه يخاف الغبن؛ فيأخذ فوق حقه؛ مخافة الغبن؛ فلا يكون هذا عدلا"؛ وقد روي نظير ذلك عن أبا حنيفة ؛ ذكر إياس بن معاوية عن ابن لهيعة أبي الأسود ؛ محمد بن عبد الرحمن ؛ قال: قلت لإياس بن معاوية : أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق؛ ولا البخلاء؛ ولا التجار الذين يركبون البحر؛ قال: "أجل؛ أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم؛ ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا؛ فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهم درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه؛ وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا؛ وهم يعلمون؛ فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا؛ وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له؛ ويشفع؛ فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ؛ ألا يأتيني [ ص: 236 ] بشهادة".
وقد روي عن السلف ؛ إلا أنها تدل على سخف؛ أو مجون؛ فرأوا رد شهادة أمثالهم؛ منه ما حدثنا رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق فاعليها عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمود بن خداش قال: حدثنا قال: أخبرني زيد بن الحباب داود بن حاتم البصري أن بلال بن أبي بردة - وكان على البصرة - كان لا يجيز وحدثنا شهادة من يأكل الطين؛ وينتف لحيته؛ قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع حماد بن محمد قال: حدثنا قال: حدثنا شريح يحيى بن سليمان عن أن رجلا كان من أهل ابن جريج مكة شهد عند ؛ وكان ينتف عنفقته؛ ويحفي لحيته؛ وحول شاربيه؛ فقال: "ما اسمك؟"؛ قال: "فلان"؛ قال: "بل اسمك ناتف"؛ ورد شهادته؛ وحدثنا عمر بن عبد العزيز قال: حدثنا عبد الباقي عبد الله بن أحمد بن سعد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد؛ عن الجعد بن ذكوان قال: دعا رجل شاهدا له عند ؛ اسمه شريح ربيعة؛ فقال: "يا ربيعة; يا ربيعة"؛ فلم يجب؛ فقال: "يا ربيعة الكويفر"؛ فأجاب؛ فقال له: "قم"؛ وقال لصاحبه: "هات غيره"؛ وحدثنا قال: حدثنا عبد الباقي عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا ؛ عن سعيد بن أبي عروبة ؛ عن قتادة ؛ عن جابر بن زيد قال: "الأقلف لا تجوز شهادته"؛ وروى ابن عباس حماد بن أبي سلمة عن أبي المهزم؛ عن : "لا تجوز شهادة أصحاب الحمر"؛ يعني النخاسين؛ وروي عن أبي هريرة أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام؛ ولا حمام؛ وروى شريح مسعر أن رجلا شهد عند وهو ضيق كم القبا؛ فرد شهادته؛ وقال: كيف يتوضأ وهو على هذه الحال؟ وحدثنا شريح قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى سليمان بن حرب قال: حدثنا ؛ عن جرير بن حازم ؛ عن الأعمش تميم بن سلمة قال: شهد رجل عند فقال: أشهد بشهادة الله؛ فقال: "شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة"؛ قال شريح : لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته؛ فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها؛ ولا سقوط العدالة؛ وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله؛ فردوا شهادتهم من أجلها; لأن كلا منهم تحرى موافقة ظاهر قوله (تعالى): أبو بكر ممن ترضون من الشهداء ؛ على حسب ما أداه إليه اجتهاده؛ فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد؛ أو مجونه؛ أو استهانته بأمر الدين؛ أسقط شهادته؛ قال محمد - في كتاب (آداب القاضي) -: "من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته"؛ قال: "ولا تجوز شهادة المخنث؛ [ ص: 237 ] ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها"؛ وقد حكي عن أن رجلا شهد عند سفيان بن عيينة فرد شهادته؛ قال: فقلت ابن أبي ليلى "مثل فلان؛ وحاله كذا؛ وحال ابنه كذا؛ ترد شهادته؟"؛ فقال: "أين يذهب بك؟ إنه فقير"؛ فكان عنده أن لابن أبي ليلى: ؛ إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال؛ وإقام شهادة بما لا تجوز؛ وقال الفقر يمنع الشهادة : "لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير؛ وتجوز في الشيء التافه؛ إذا كانوا عدولا"؛ فشرط مالك بن أنس مع الفقر المسألة؛ ولم يقبلها في الشيء الكثير؛ للتهمة؛ وقبلها في اليسير؛ لزوال التهمة؛ وقال مالك المزني؛ والربيع ؛ عن : "إذا كان الأغلب على الرجل؛ والأظهر من أمره الطاعة؛ والمروءة؛ قبلت شهادته؛ وإذا كان الأغلب من حاله المعصية؛ وعدم المروءة؛ رددت شهادته". وقال الشافعي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم؛ عن : "إذا كان أكثر أمره الطاعة؛ ولم يقدم على كبيرة؛ فهو عدل"؛ فأما شرط المروءة؛ فإن أراد به التصاون والصمت الحسن؛ وحفظ الحرمة؛ وتجنب السخف؛ والمجون؛ فهو مصيب؛ وإن أراد به نظافة الثوب؛ وفراهة المركوب؛ وجودة الآلة؛ والشارة الحسنة؛ فقد أبعد وقال غير الحق; لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين. الشافعي