الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الطلاق قبل النكاح، والعتق والصدقة قبل الملك

                                                                                                                                                                                        الطلاق قبل النكاح على وجهين: أحدهما عام والآخر خاص، فيسقط إذا عم، ويختلف فيه إذا خص، الأول قول الحالف: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فيمينه ساقطة; لأن يمينه تقتضي عموم النساء، والأزمنة والبلدان، وذلك حرج، والحرج ساقط بالقرآن.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا عم ملك اليمين فقال: كل أمة أتسراها حرة، فقيل: لا شيء عليه كعموم الطلاق. وقيل: يلزمه; لأنه أبقى النكاح. وهو أحسن; لأن العمدة التزويج، وعليه معظم الناس، والتسري في جنب النكاح يسير، ولا تلحق المضرة بالاقتصار على النكاح، وتلحق بالاقتصار على التسري، وللناس رغبة في التناسل، ورغبة عن ذلك من الإماء، وإن قال: كل أمة أتزوجها طالق - لزمه; لأنه أبقى الحرائر، واختلف إذا قال: كل حرة أتزوجها طالق، وأرى أن لا شيء عليه، وسواء كان ذا طول أم لا; لأن الاقتصار على الإماء مما يدرك به الحرج، قياسا على عموم النكاح إذا أبقى التسري، ولأن المعرة تدرك بتزويج الإماء، ولا تدرك بتسريهن، فكان النكاح في ذلك أشد، وتدركه المعرة أيضا بإرقاق ولده.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا خص في النكاح فسمى امرأة أو جنسا أو قبيلة أو بلدا أو [ ص: 2639 ] زمنا يبلغه عمره، هل يلزمه ذلك؟ وإن قال: كل بكر أتزوجها أو كل ثيب فهي طالق - لزمه على القول أنه إذا خص يلزمه اليمين، واختلف إذا قال: كل بكر ثم قال: كل ثيب، أو كل ثيب ثم قال: كل بكر، هل تلزمه اليمين الثانية؟ وأن لا شيء عليه أحسن; لأنه قد عم جميع النساء، ولم يبق من يتزوج، وإن قال: أول امرأة أتزوجها طالق - لزمه؛ لأنه أبقى ما بعد الأولى، فلا يحنث إلا في امرأة واحدة، واختلف إذا قال: آخر امرأة أتزوج طالق، فقال ابن القاسم في كتاب محمد: لا شيء عليه، وقال في العتبية: وهو مثل من حرم جميع النساء; لأنه كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها، قال: ولعل تلك المرأة آخر امرأة يتزوجها، فلا تستقر معه امرأة، وقال محمد وسحنون: يلزمه ذلك، ويوقف عنها، خوف ألا يتزوج غيرها، فإن تزوج غيرها حلت الأولى، ويوقف عن الثانية، فإن تزوج ثالثة، وقف عنها، وحلت الثانية، وإن تزوج رابعة وقف عنها، وحلت الثالثة، والصواب أن لا شيء عليه في أول امرأة يتزوج; لأنه لم يعقد فيها يمينا، إذا قال: آخر امرأة، علمنا أنه جعل لنكحه أولا، ولم يرده باليمين، وأخرى علق به اليمين، وإذا قال: أول امرأة أتزوج طالق، ثم قال بعد [ ص: 2640 ] ذلك: آخر امرأة أتزوج - انعقد اليمين فيهما جميعا، بخلاف من قال: كل بكر، ثم قال: كل ثيب; لأن هذا قادر على أن يصيب بغير حنث، فإن تزوج بامرأة- طلقت; لأنها أول، وإن تزوج ثانية كانت اليمين منعقدة فيها; لأنه قادر على أن يتزوج أخرى، وتحل الثانية.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال لزوجته: كل امرأة أتزوجها عليك في حياتك وبعد وفاتك طالق، فقال ابن القاسم في الدمياطية: يلزمه فيما تزوج في حياتها، ولا يلزمه فيما تزوج بعد وفاتها. وقال أشهب: لا يلزمه شيء، وهو بمنزلة من قال: لا أتزوج أبدا، وهو أبين; لأن المفهوم والقصد ألا يتزوج أبدا، هذا في حق الله تعالى، وأما في حق الزوجة فإن لها أن تقوم بطلاق ما يتزوج في حياتها; لأنها تقول: جعلت ذلك لئلا يدخل علي ما يسوءني في حياتي، فزدت على ذلك بعد وفاتي على أن أقوم بما يكون في حياتي; لأنه مما يقدر على الوفاء به، ويسقط ما بعد ذلك. وقال ابن القاسم في كتاب محمد فيمن قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها غيرك طالق: لزمه ذلك، قال: وهو بمنزلة قوله: كل امرأة أتزوجها عليك طالق، وقال محمد: لا شيء عليه، وإنما تكلم ابن القاسم على ما يجب من حق المرأة; لأن القصد في مثل ذلك ألا يسوءها بضرة في حياتها، يتزوجها عليها، ولا يتزوج بعدها، وأوجب ذلك لها عليه، فوجب أن يوفي لها [ ص: 2641 ] بما يكون في حياتها، وقبل أن يطلقها; لأن ذلك لا حرج عليها فيه، فكانت في هذا الوجه بمنزلة من قال: لا أتزوج عليك، ولا بعد وفاتك.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية