بيان . الأسباب الباعثة على الغيبة
اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ، ولكن يجمعها أحد عشر سببا ; ثمانية منها تطرد في حق العامة ، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة .
أما الثمانية فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فإنه إذا ، هاج غضبه يشتفى بذكر مساويه فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع وقد يمتنع تشفي الغيظ عند الغضب ، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير ، حقدا ثابتا ، فيكون سببا دائما لذكر المساوي فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة .
الثاني موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام ؛ فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة ، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم ؛ إظهارا للمساهمة في السراء والضراء ، فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوي .
الثالث أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ، ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة .
فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ، ويطعن فيه ؛ ليسقط أثر شهادته أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ، ويستشهد ، ويقول : ما من عادتي الكذب ؛ فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله ، فكان كما قلت .
الرابع أن ينسب إلى شيء ، فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله ، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ، ولا يذكر الذي فعل ، فلا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله .
الخامس .: إرادة التصنع ، والمباهاة وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره ، فيقول : فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه ، فيقدح فيه لذلك .
السادس : الحسد ، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه ، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه ; لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له ، وهذا هو عين الحسد ، وهو غير الغضب والحقد فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه ، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق .
السابع ، اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب .
الثامن السخرية والاستهزاء : ؛ استحقارا له ؛ فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضا في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به .
وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات ، وفيها خير ، ولكن شاب الشيطان بها الشر .
الأول ، أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين ، فيقول : ما أعجب ما رأيت من فلان ؛ فإنه قد يكون به صادقا ويكون تعجبه من المنكر ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه ، فيسهل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه ، فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري .
ومن ذلك قول الرجل : تعجبت من فلان كيف يحب جاريته وهي قبيحة وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل .
الثاني : الرحمة ، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول : مسكين فلان ، قد غمني أمره ، وما ابتلي به ، فيكون صادقا في دعوى الاغتمام ، ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه ، فيذكره ؛ فيصير به مغتابا فيكون غمه ورحمته خيرا ، وكذا تعجبه ولكن ، ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري ، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه ، فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ؛ ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه .
الثالث ، .: الغضب لله تعالى ؛ فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان ، إذا رآه أو سمعه ، فيظهر غضبه ، ويذكر اسمه ، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا يظهره على غيره أو يستر ، اسمه ولا يذكره بالسوء فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلا عن العوام ؛ فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى .
كان عذرا في ذكر الاسم ، وهو خطأ ، بل حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم ، كما سيأتي ذكره. روي عن المرخص في الغيبة عامر بن واثلة أن رجلا مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليهم ، فردوا عليه السلام ، فلما جاوزهم قال رجل منهم : إني لأبغض هذا في الله تعالى . فقال أهل المجلس لبئس ما : قلت ، والله لننبئنه ثم قالوا : يا فلان . لرجل منهم ، قم فأدركه وأخبره بما قال . فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له ما قال ، وسأله أن يدعوه له ، فدعاه وسأله ، فقال : قد قلت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : لم تبغضه ؟ فقال : أنا جاره وأنا به خابر والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة قال فاسأله يا رسول الله ، هل رآني أخرتها عن وقتها ، أو أسأت الوضوء لها ، أو الركوع أو السجود فيها ؟ فسأله ، فقال : لا . فقال : والله ما رأيته يصوم شهرا قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر قال فاسأله يا رسول الله ، هل رآني قط أفطرت فيه ، أو نقصت من حقه شيئا ؟ فسأله عنه ، فقال : لا فقال : والله ما رأيته يعطي سائلا ولا مسكينا قط ، ولا رأيته ينفق شيئا من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر . قال فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها ، أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها فسأله ، فقال : لا . فقال صلى الله عليه وسلم للرجل : قم ؛ فلعله خير منك .