الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما سئل رسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن معنى الشرح في قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وقيل له : ما هذا الشرح قال : إن النور إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل : يا رسول الله ، وهل لذلك من علامة ؟ قال : نعم ، التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ، فانظر كيف جعل الزهد شرطا للإسلام وهو التجافي عن دار الغرور وقال : صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا : إنا لنستحي منه تعالى ، فقال ليس كذلك تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون . فبين أن ذلك يناقض الحياء من الله تعالى ولما قدم عليه بعض الوفود قالوا : إنا مؤمنون ، قال : وما علامة إيمانكم ؟ فذكروا الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء ، والرضا بمواقع القضاء ، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء ، فقال : صلى الله عليه وسلم : إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ، ولا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون ، فجعل الزهد تكملة لإيمانهم، وقال ، جابر رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من جاء : بلا إله إلا الله لا يخلط بها غيره وجبت له الجنة فقام إليه علي كرم الله وجهه فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما لا يخلط بها غيرها ، صفه لنا ، فسره لنا؟ فقال : حب الدنيا طلبا لها واتباعا لها وقوم يقولون قول الأنبياء ويعملون عمل الجبابرة ، فمن جاء بلا إله إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة وفي الخبر : السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك وقال أيضا : السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، قريب من النار والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا والسخاء ثمرة الزهد .

والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة .

وروي عن ابن المسيب عن أبي ذر عن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أنه قال : من زهد في الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها ، وأخرجه منها سالما إلى دار السلام وروي أنه : صلى الله عليه وسلم مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحب أموالهم إليهم ، وأنفسها عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والوبر ولعظمها في قلوبهم قال الله تعالى وإذا العشار عطلت قال : فأعرض عنها رسول الله : صلى الله عليه وسلم وغض بصره ، فقيل له : يا رسول الله : هذه أنفس أموالنا لم لا تنظر إليها ؟ فقال : قد نهاني الله عن ذلك ، ثم تلا قوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به الآية وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها : قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تستطعم الله فيطعمك قالت : وبكيت لما رأيت به من الجوع ، فقال : يا عائشة ، والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ، ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها ، يا عائشة ، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة ، إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل والله ما لي بد من طاعته ، وإني والله لأصبرن كما صبروا بجهدي ولا قوة إلا بالله وروي عن عمر : رضي الله عنه : أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها : البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق ، ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر فقال عمر : يا حفصة ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته ؟ فقالت : بلى ، قال : ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية ، ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة ؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن النبي : صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر وهو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر ؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يوما طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشق ذلك عليه حتى تغير لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ، ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض ؟ وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : كان ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال : منعتموني قيام الليلة بهذه العباءة ، اثنوها باثنتين كما كنتم تثنونها ؟. وناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة ؟ وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر ، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره وقد عقد طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك ؟ فما زال يقول حتى أبكاها وبكى عمر رضي الله عنه : وانتحب حتى ظننا أن نفسه ستخرج .

وفي بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنه قال : كان لي صاحبان سلكا طريقا فإن سلكت غير طريقهما سلك بي طريق غير طريقهما ، وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما عيشهما الرغيد .

التالي السابق


(ولما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى الشرح في قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وقيل له: ما هذا الشرح فقال: إن النور إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قيل: يا رسول الله، وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي) أي: التباعد (عن دار الغرور والإنابة) أي: الرجوع (إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله، فانظر كيف جعل الزهد) في علامة شرح الصدور بالنور، وهو نور التصديق الذي هو عموم وصف المؤمنين; لأنه هو التحقيق بالإسلام فهذا [ ص: 328 ] هو الزهد (جعله شرطا للإسلام) أي: لحقيقته (وهو التجافي عن دار الغرور) .

وهذا الحديث رواه ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي جعفر المدايني هو عبد الله بن المسور من ولد جعفر بن أبي طالب، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية، قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح له، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت.

ورواه عبد بن حميد عن الفضيل: أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف الشرح؟ قال: إذا أراد الله بعبد خيرا قذف في قلبه النور فانفسح لذلك صدره، فقال: يا رسول الله، هل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: فما آية ذلك قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، وحسن الاستعداد للموت قبل نزول الموت، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن الحسن نحوه، وقد روي ذلك من حديث ابن مسعود، أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق، وقد تقدم في كتاب ذم الدنيا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم - استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي منه، فقال) : ليس كذلك (تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون. فبين أن ذلك يناقض الحياء من الله تعالى) فقد فسر الحياء من الله تعالى بالزهد في الدنيا. قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أم الوليد ابنة عمر بن الخطاب بإسناد ضعيف. اهـ .

قلت: أم الوليد هذه ذكرها الدارقطني في الإخوة، وقال: روى حديثها الطبراني وفيها نظر. انتهى .

قال الحافظ: حديثها أنها قالت: اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات عشية فقال: أيها الناس ألا تستحيون؟ قالوا: مم ذاك يا رسول الله؟ قال: تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تعمرون، وتؤملون ما لا تدركون. أخرجه الطبراني من رواية عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي عن الوازع بن نافع عن سالم بن عبد الله بن عمر عنها، وقال ابن منده: رواه سعيد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن ثابت عن الوازع بن نافع قال الحافظ: والطريقان ضعيفان .

(ولما قدم عليه) - صلى الله عليه وسلم - (بعض الوفود) من العرب قال لهم: ما أنتم؟ (قالوا: إنا مؤمنون، قال: وما علامة إيمانكم؟ فذكروا الصبر على البلاء والشكر عند الرخاء، والرضا بمواقع القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون، فجعل الزهد تكملة لإيمانهم) ، وعلوا لمقامهم وتماما على إحسانهم. قال العراقي: رواه الخطيب وابن عساكر في تاريخهما بإسناد ضعيف من حديث جابر (وقال جابر) بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط بها) أي: معها (غيرها وجبت له الجنة) فقام إليه (علي) بن أبي طالب (- كرم الله وجهه - فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما لا يخلط بها غيرها، صفه لنا، فسره لنا فقال: حب الدنيا طلبا لها واتباعا لها وقوم يقولون قول الأنبياء ويعملون عمل الجبابرة، فمن جاء بلا إله إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة) ، قال صاحب القوت رويناه عن ابن المنكدر عن جابر وقال العراقي: لم أره من حديث جابر، وقد رواه الحكيم في النوادر من حديث زيد بن أرقم بإسناد ضعيف نحوه. انتهى .

ثم قال صاحب القوت: فلذلك كان علي - رضي الله عنه - يجعل الزهد مقاما في الصبر ويجعل الصبر عمدة الإيمان، وفسر بذلك مقام اليقين الذي شرح فيه شعبه في حديثين رويناهما: أولهما: قوله في الحديث الطويل الذي رواه عكرمة وعتبة بن حميد والحارث الأعور وقبيصة بن جابر الأسدي في مباني الإيمان أنه قال: الإيمان على أربع شعب، وفي لفظ حديث بعضهم: اليقين على أربع دعائم: على الصبر واليقين والجهاد والعدل، ثم قال فيه: والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفقة والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن ترقب الموت سارع في الخيرات، فأقام الزهد مقام اليقين إذ هو مقتضاه، فلما أوجب اليقين الزهد في الدنيا اقتضى الزهد تهوين مصائبها وتيسير شأنها وتسهيل أمرها [ ص: 329 ] فصغرت بعد كبرها، وهانت بعد صعوبة حالها فاستبدل الرغبة في الآخرة فسارع إليها بقدر هربه من الدنيا ونافس فيها بقدر عزوفه عن ضدها عند التحقق بإرادة الآخرة وسعى لها سعيها لما ركب طريقها وصار ابن سبيلها، فوجب حقه على الراغبين في الدنيا كما وجب حق ابن السبيل الذي ركب الطريق، فتدبر .

(وفي الخبر: السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك) قال صاحب القوت: رويناه في خبر مقطوع، وقال العراقي: ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي الدرداء، ولم يخرجه ولده في مسنده، وقال أيضا: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، رواه الترمذي وقال: غريب، والدارقطني في الأفراد، وابن عدي والبيهقي والخرائطي في مكارم الأخلاق، والخطيب في كتاب ذم البخلاء من حديث أبي هريرة، ورواه البيهقي من حديث جابر بن عبد الله، رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط والخطيب من حديث عائشة، قال الدارقطني: له طرق ولا يثبت منها شيء، قال السيوطي: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ولم يصب، وقد تقدم ذلك في ذم البخل .

قال صاحب القوت: الخبر الأول مفسر للخبر المجمل الثاني بأي معنى كان السخي قريبا من الله; لأن السخاء من اليقين، والسخي موقن فصار من المقربين، وبأي معنى كان البخيل بعيدا من الله بعيدا من الناس قريبا من النار أي: بالشك; لأنه ضد اليقين، فصار به من المبعدين، فالسخاء أيضا وصف الزاهد، لا يكون الزاهد إلا سخيا; لأنه لما زهد في الدنيا سخت نفسه بها وطابت عنها للاستبدال بها والتعويض عنها .

(والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا) ووصف الراغب فيها: لا يكون الحريص إلا بخيلا، ولا يكون البخيل زاهدا (و) قد يكون (السخاء) سببا للزهد إذا سخت نفسه عن الشيء زهدت فيه كما زهدت في شيء أخرجه إلى غيره، فصار السخاء (ثمرة الزهد) فنفس الزهد سخاء، وعين البخل رغبة، (والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة وروى) سعيد بن (المسيب) - رحمه الله تعالى - (عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من زهد في الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها، وأخرجه منها سالما إلى دار السلام) .

ولفظ القوت: وبصره داءها ودواءها فبنور الحكمة أبصرت داء الدنيا وعرفت دواءها فوضعت الدواء على معاقر الداء فبرئ ولا ترى ذلك قبل نور الحكمة وبالزهد في الدنيا إذا خرجت منها ورثت الحكمة، فأخرجت من ظلمات الهوى إلى نور التقوى، إذ لا يبصر العبد عيب ما فيه ولا يعرف قبحه حتى يفارقه إلى هاديه. وزاد في موضع آخر: ومن حرص عليها توهه الله فيها، ولم يبال في أي أوديتها يهلكه .

وقال العراقي: لم أره من حديث أبي ذر، ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا من حديث صفوان بن أبي سليم مرسلا، ولابن عدي في الكامل من حديث أبي موسى الأشعري: من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال: حديث منكر، ورواه أبو الشيخ في كتاب الثواب في الحلية مختصرا من حديث أبي أيوب: من أخلص لله. الحديث، وكلها ضعيفة. انتهى .

قلت: حديث أبي موسى الأشعري تقدم الكلام عليه قريبا أما حديث أبي أيوب: من أخلص العبادة لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. فقد رواه الشيخ وأبو نعيم عن مكحول عن أبي أيوب، ورواه هنا في الزهد وأبو نعيم أيضا عن مكحول مرسلا، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال في أي أوديتها هلك.

(وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي) النوق (الحوامل) وهو تفسير للعشار يقال: عشرت الناقة مشددا فهي عشراء أتى على حملها عشرة أشهر وجمعه عشار، ومثله نفساء ونفاس لا ثالث لهما، وأما الحفل فهي جمع حافلة، وهي التي ترك حلبها حتى اجتمع اللبن في ضرعها، وهي محفلة أيضا، وأصله في الشاة، (وكانت من أحب أموالهم إليهم، وأنفسها عندهم) ، وأهمها وأكرمها عليهم، (لأنها تجمع الظهر) [ ص: 330 ] للركوب عليها، (واللحم) لأكلهم، (واللبن) لشربهم، (والوبر) للبسهم وكنهم، والولد، فهي خمسة، وهي الراحلة من الإبل التي ضرب المثل في قلة وجودها مع الكثرة، فإن التي تجمع هذه الخمس من الإبل الحمولة قليل، فكذلك المؤمن الجامع للخصال الخمس عزيز قليل بين الجملة، يجمع الزهد والعلم والعمل والخوف والورع (ولعظمها في قلوبهم قال الله تعالى) في خطابه لهم بتعطيلها عند تكوير شمسها: إذا الشمس كورت ( وإذا العشار عطلت ) علمت نفس ما أحضرت يعني يومئذ تشهد ما قدمت من مثاقيل الذر من الخير والشر .

(قال: فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أعني عن العشار الحوامل (وغض بصره، فقيل له: يا رسول الله: هذه أنفس أموالنا) وكرائمها أعرضت عنها (لم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله عن ذلك، ثم تلا قوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به الآية) وتمامها أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى هكذا أورده صاحب القوت بعد أن قال: وقد نهى الله رسوله أن يوسع نظره إلى أبناء الدنيا مقتا لهم وأخبر أن ما أظهره من زينة الدنيا وزهرتها فتنة لهم وأعلمه أن الزهد والقناعة خير وأبقى. تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به الآية، وفي خبر: أنه - صلى الله عليه وسلم - فساقه .

وقال العراقي: لم أجد له أصلا قلت: وروى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: وإذا العشار عطلت أي: سيبها أهلوها أتاهم ما شغلهم عنها فلم تصر ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أحب إليهم منها، وروى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار وقرأ ولا تمدن عينيك إلى قوله: نحن نرزقك ثم يقول: الصلاة رحمكم الله. وقال صاحب القوت بعد أن أورد قصة العشار: وبمعناه روينا في الإسرائيليات أن عيسى - عليه السلام - مر في الحواريين على شجرة خضرة نضرة من تحتها غدير فنظروا إليها فأعرض هو فلم ينظر فلما جاوزها قال: بحق أقول لكم: لقد نقص من عقولكم بمقدار نظركم إلى الدنيا .

(وروي عن مسروق) بن الأجدع الهمداني التابعي الكوفي (عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تستطعم الله فيطعمك قالت: وبكيت لما رأيت به من الجوع، فقال: يا عائشة، والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض، ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها، يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة، إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض لي إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل والله ما لي بد من طاعته، وإني والله لأصبرن كما صبروا بجهدي ولا قوة إلا بالله) .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من رواية عباد بن عباد عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق مختصرا: أن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض لي إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ومجالد مختلف في الاحتجاج به (وروي عن عمر) بن الخطاب (- رضي الله عنه - أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة - رضي الله عنها -: يا أبت البس لين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومر بصنعة طعام تطعمه) أي: تأكله (وتطعم من حضر) منهم، (قال عمر: يا حفصة ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ فقالت: بلى، قال: ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية، ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة؟

وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 331 ] قربتم إليه طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشق عليه ذلك حتى تغير لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت، ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض؟

وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال: منعتموني قيام الليلة بهذه العباءة، اثنوها باثنتين كما كنتم تثنونها؟ .

وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضع قميصه فيغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟

وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنعت له امرأة من بني ظفر) قبيلة من الأنصار (كسائين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه على عنقه فصلى كذلك؟ فما زال) عمر (يقول) لها من هذا الجنس (حتى أبكاها وبكى عمر - رضي الله عنه - وانتحب حتى ظننا أن نفسه ستخرج)
.

قال العراقي: لم أجده هكذا مجموعا في حديث، وهو مفرق في عدة أحاديث، فروى البزار من حديث ابن عمران بن حصين قال: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله غداء وعشاء من خبز شعير حتى لحق بربه. وفيه عمرو بن عبيد العذري متروك الحديث، وللترمذي من حديث عائشة: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله غداء ولا عشاء من خبز شعير حتى لحق بربه. وفيه عمرو بن عبيد العذري متروك الحديث، وللترمذي من حديثها: ما شبع من طعام فما أشاء أن أبكي إلا بكيت، قلت: لم؟ قالت: أذكر الحال التي فارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها الدنيا والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم، قال: حديث حسن، وللشيخين من حديثهما: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعا حتى قبض.

وللبخاري من حديث أنس: كان لا يأكل على خوان. الحديث. وتقدم في آداب الأكل، وللترمذي في الشمائل من حديث حفصة أنها سئلت: ما كان فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: مسح نثنيه بثنيتين فينام عليه. الحديث، ولابن سعد في الطبقات من حديث عائشة أنها كانت تفرش للنبي - صلى الله عليه وسلم - عباءة باثنتين. الحديث، وتقدم في آداب المعيشة، وللبزار من حديث أبي الدرداء قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينخل له الدقيق، ولم يكن له إلا قميص واحد، وفيه سعيد بن ميسرة كذبه القطان وضعفه البخاري، ولابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت: صلى في شملة قد عقد عليها. زاد الغطريفي في جزئه المشهور: فعقدها في عنقه ما عليه غيرها، وإسناده ضعيف، وتقدم في آداب المعيشة .

(وفي بعض الروايات زيادة من قول عمر) - رضي الله عنه - (وهو أنه قال: كان لي صاحبان سلكا طريقا فإن سلكت غير طريقتهما سلك بي طريق غير طريقهما، وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما العيش الرغيد) أخبرنا عمر بن أحمد بن عقيل أخبرنا عبد الله بن سالم، أخبرنا محمد بن العلاء الحافظ، أخبرنا سليمان بن خالد، أخبرنا محمد بن أحمد بن علي، أخبرنا زكريا بن محمد، أخبرنا محمد بن حسين بن أبي بكر المراغي، أخبرنا عبد الرحيم بن الحسين الحافظ، أخبرنا عبد الوهاب بن علي السبكي، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا جماعة قالوا: أخبرنا ابن اللتي، أخبرنا أبو الوقت، أنبأنا أبو الحسن المظفري، أنبأنا ابن أعين، أنبأنا إبراهيم بن خزيم، حدثنا عبد بن حميد، حدثنا محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد عن أخيه عن مصعب بن سعد قال: قالت حفصة لأبيها: قد أوسع الله الرزق، فلو أنك أكلت طعاما ألين من طعامك ولبست ثوبا ألين من ثوبك، فقال: سأخاصمك إلى نفسك، فجعل يذكرها ما كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانت فيه من الجهد حتى أبكاها، فقال: قد قلت لك إنه كان لي صاحبان سلكا طريقا وإني إن سلكت غير طريقهما سلك بي غير طريقهما، وإني والله لأشاركنهما في مثل عيشهما لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي.

وكذلك رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن إسماعيل، ورواه يزيد بن هارون عن إسماعيل عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: قالت حفصة لعمر: يا أمير المؤمنين، لو لبست ثوبا هو ألين من ثوبك وأكلت طعاما هو ألين من طعامك فقد وسع الله الرزق وأكثر من الخير، فقال: إني سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى من شدة العيش؟ فما زال يذكرها حتى أبكاها، فقال لها: أما والله إن قلت ذلك لك إني والله لئن استطعت لأشاركنهما بمثل عيشهما الشديد لعلي أدرك [ ص: 332 ] معهما عيشهما الرخي، هكذا رواه أحمد في الزهد عنه، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريقه، ورواه معمر عن ابن أبي طاوس عن عكرمة بن خالد أن حفصة وابن مطيع وابن عمر كلموا عمر فقالوا: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق، قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم، قال: قد علمت أنه ليس منكم إلا ناصح ولكن تركت صاحبي على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل، قال: وأصاب الناس سنة فما أكل عامئذ سمنا ولا سمينا.




الخدمات العلمية