قد يكون عنوان هذا المقال مستغرباً بعض الشيء عند القارئ الكريم، بل نحسب فوق هذا، أنه قد يثيره ويشد انتباهه للتعرف على مضمونه، وما يحتويه من معان وأفكار، ترتبط بكيفية التعامل مع كتاب الله عز وجل، وهذا ما نأمله، ونصبوا إليه.
والحق، فإن الحديث عن تثوير القرآن، حديث ليس بالهزل، وإنما هو الفيصل والفصل، بل هو الأصل...وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نسعى من خلال هذا المقال إلى لفت انتباه من يعنيه الأمر، للقراءة والتأمل في هذه السطور...
ونبادر فنقول: إن مادة ثار يثور ثورة، من حيث اللغة، تفيد الهياج وحدَّة الغضب؛ تقول: ثار الدخان والغبار وغيرهما، يثور ثورًا وثورانًا: ظهر وسطع...وفي التنـزيل قوله تعالى: {وأثاروا الأرض} (الروم:9) أي قلبوها للزراعة والحرث؛ وفي الحديث -كما في الصحيحين- جاءه رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسأله الإيمان؛ أي منتشر شعر الرأس؛ وكل ما استخرجته أو هجته، فقد أثرته. وثوَّرتُ الأمر: بحثته؛ وثوَّر القرآن: بحث عن معانيه وعن علمه ومقاصده...
وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (من أراد خير الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين). وفي لفظ: (علم الأولين والآخرين) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" وفي رواية: (من أراد العلم فليثوِّر القرآن).
قال بعض أهل العلم: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء في تفسيره ومعانيه.
إذا تبين أصل الكلمة ومعناها لغة، وما جاء من آثار فيما نحن بصدد بيانه، ننتقل خطوة أخرى، لنقول: إن الثورة التي -نحن المسلمين- بحاجة إليها اليوم، هي ثورة القراءة والعلم والفهم، ومن ثَمَّ العمل والتطبيق؛ إنها ثورة "تثوير القرآن" وتفعيله بعد أن أصبح مهجورًا بكثير من أنواع الهجران: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} (الفرقان:30).
- لقد هجرنا القرآن أولاً بهجر قراءتنا له؛ وهذا أبسط أنواع الهجران.
- ثم هجرناه ثانيًا بهجر التفكر والتفاكر في معانيه ومقاصده ومراميه، فشغلتنا الحروف والألفاظ، عن المعاني والأهداف.
- ثم هجرناه ثالثًا بالاشتغال والاهتمام بآيات الأحكام فحسب، وتركنا - وربما أعرضنا - عن الاشتغال بآيات الأنفس والآفاق، ونحوهما.
- ثم هجرناه رابعًا بتطويعه لأغراض عارضة، وإسقاط معانيه الأصلية الواسعة الشاملة، على قضايا ظرفية آنية فانية.
ويُلَخِّصُ أنواع الهجران هذه، العمل ببعض آيات الكتاب وترك العمل بالبعض الآخر؛ ولا نقول هنا في حق بعض المسلمين الغافلين، ما قاله سبحانه في حق اليهود الظالمين: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} لأن حسن الظن بالمسلمين واجب شرعًا، لكنه التنبيه والتذكير والنصح.
لقد آن للمسلم المعاصر -وقد بلغ الإنسان من العلم ما بلغ، وامتلك من أدوات البحث ووسائله ما امتلك- أن يثوِّر القرآن، ليستخرج منه معانيه الكلية، وأهدافه السامية، ليضبط بها سير وجهته، ويحدد من خلالها وجهة مقصده؛ وهذا على مستوى الفرد، والأمر على مستوى الأمة آكد وأوجب.
ثم إن المسلمين اليوم، بقدر ما هم بحاجة إلى تثوير القرآن، ليفهموا آيات الله المسطورة، فهم بحاجة أيضًا -لا تقل عن الحاجة الأولى- إلى تثوير البصائر، ليروا آيات الله المنشورة، ليكون ذلك تصديقًا لما هو مسطور، وتفعيلاً لما هو مقروء؛ وليتحقق فيهم قول الله سبحانه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:53).
نسأل الله أن يجعلنا ممن {ألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} (الفتح:26).
* ينظر في مادة هذا المقال كتاب (وإذ أعيد قراءة الجهاد) للأستاذ محمد نبيل خياط، دار الفكر، دمشق.