الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أرفض من يتقدم لخطبتي لمشاكل أبي وأمي.. فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا فتاة، أريد الكتابة إليكم منذ فترة، فمعاناتي بصمت منذ عدة سنوات، لا يعلم بي أحد ممن حولي، فقد مررت بمشاكل كثيرة في حياتي، وضغوط نفسية عديدة، بدءًا من حادثة اغتصاب وأنا في عمر 9 أو 10 سنوات تقريباً، من شخص لا أعرفه، استغل براءتي وطفولتي واستدرجني، خفت حينها ولم أخبر أي شخص بما حدث، لأنني لم أكن أفهم ما الذي حدث لي، وحتى لا أتذكر هل فقدت بكارتي أم لا؟ -أظن لا بإذن الله- فأنا لا أتذكر رؤية أي دماء، حيث كانت الحادثة سريعة وعابرة، كما عانيت من قسوة وجفوة أبي في تعامله معي في طفولتي، وضربه لي بشدة، وكان دائما يسخر مني ومن كلامي، ويضحك على ما أقوله أمامه، فنشأت مهزوزة الثقة بالنفس، لا أستطيع الاعتماد على نفسي، ولا أستطيع الكلام بشكل مسترسل، فيكثر في كلامي التوقف للتفكير فيما سأقول.

ثم حدث أن تزوج أبي بامرأة أخرى، وما تلاه من انهيار أمي نفسيا وصحياً، وحدوث مشاكل ضخمة بينهما وصلت للطلاق، لكنهم تراجعوا في النهاية، كنت حينها في سن 17 سنة، بعد ثلاثة شهور من زواج أبي أصيبت أمي بالسرطان، وعشنا أياما صعبة (إجراء جراحة كبرى لاستئصال الثدي، ثم علاجا كيماويا، ثم إشعاعيا)، إلى أن من الله علي أمي بالشفاء -ولله الحمد- لكنني أصبت بسبب كل ذلك بأذى نفسي داخلي، فأصبح لدي وسواس دائم وخوف من المرض، خوف على نفسي، وخوف على أمي، لأنها كل ما لدي في الحياة، أسأل الله أن يطيل في عمرها، فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.

كما لدي غضب داخلي شديد على والدي مما فعله بأمي، وتسبب في قهرها بشدة، رغم أنني أحبه، ولكنني لا أستطيع مسامحته على ما حلَّ بحياتنا، وبحياتي وبشخصيتي المدمرة داخلياً، والحزينة دائما برغم إظهاري عكس ذلك لمن حولي، لقد أصبح عمري الآن 30 سنة، وطوال الفترة السابقة وأنا أعاني من هذا الحزن، كما أن ضعف الثقة بالنفس أصابتني بالرهاب الاجتماعي، فلم أعد أرغب في التواصل مع الآخرين إلا للضرورة، أتمنى الحصول على وظيفة لكي أغير من روتين حياتي، لكنني لا أستطيع، وأخاف من التقدم لأي وظيفة بسبب الرهاب، فقد تقدمت للدراسات العليا، لكي تكون لدي حجة في رفض الخطاب الذين يتقدمون لي دون مقابلتهم، بحجة انشغالي بالدراسة والماجستير، وأشعر أنهم سيرفضونني رغم أنني جميلة الشكل، إلا أنني أشعر بالنقص.

حياتي تسير على هذا النمط المستقر، وتجنبي لفكرة الزواج تماما، ولكن ما دعاني للكتابة لكم حاليا، هو تقدم أحد الخطاب لي، فاضطررت لمقابلته هذه المرة، ولم أستطع تجنب المقابلة كالعادة، ويبدو أنه أعجب بي، بالرغم من شروطي عليه بأمور قد تتسبب في الرفض، كإفصاحي له بأنني أكمل دراستي العليا، وهذه هي الحقيقة، فأنا أدرس الماجستير حاليا، لكنه وافق على كل طلباتي، وأهلي معجبون به، ولا يرون به عيباً، سوى ما لاحظته عليه من اختلاف الأفكار بيننا، ويطلبون مني الموافقة عليه، لأنه على خلق، ويسيؤن معاملتي عندما أطلب منهم أن يرفضوه، وأخشى من طلب الرجل بإتمام الزواج، ولا أدري ما المبرر الذي سأرفضه به، فالمشكلة بي أنا وليس بالخاطب، وأفكر كيف سوف أتعامل معه ومع أهله وعائلته عندما يأتون لي جميعهم.

لا أخفي عليكم أنني أمتنع عن الزواج عقاباً لوالدي، لأنه تزوج على والدتي وأنا في سن المراهقة، وهو العمر الذي تبدأ به الفتاة بالتفكير في الحب والزواج، لكنني في ذلك الوقت كنت منشغلة بمرض أمي، وخلافاتها الزوجية، ووحدتي التي كنت أعانيها دون سند من أهل أبي الذين قاطعونا حينها، فنسيت هذه الأمور الجميلة التي تحبها الفتيات في مثل هذا السن، وانشغلت بهمومي، لذلك كله أرفض الزواج، ولا أريد لأبي أن يفرح بي، وأريد معاقبته لكي يشعر بالندم لما فعل بحياتنا قديما، حيث قلبها رأساً على عقب.

منذ حوالي 7 سنوات، حاولت الذهاب لدكتور نفسي لأخذ علاج للرهاب، ولمشكلة نزع شعر الرأس ونتفه، والتي ما زالت مستمرة معي حتى الآن، أخذت بعض الأدوية لفترة قصيرة لا تتجاوز شهرين أو ثلاثة أشهر، مثل: كالفيلوزاك والزولام والسيبرالكس والأنافرونيل، ولكنني لم أستمر على الأدوية نظراً لتكلفتها مادياً، ولأنها أتعبتني، وكانت تؤدي إلى نومي معظم اليوم.

أعتذر عن الإطالة، وأرجو أن أكون قد ألممت لكم بمشكلتي من جميع جوانبها، وأنتظر منكم المساعدة والغوث، لأنني أشعر بأني في أسوأ حالاتي، وأشعر أن وقت المواجهة مع أهلي قد حان، وسأضطر لإخبارهم بما أعاني منه وهم لا يدرون، مع أن هذا أمر أحاول تجنبه منذ البداية، خوفًا على صحة أمي كما أشرت لكم سابقاً، فبماذا تشيرون علي؟

أفيدوني جزاكم الله خيراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هبة حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

شكرا لك على الثقة بنا، وبالكتابة والفضفضة إلينا بما يدور في نفسك وحياتك، أعانك الله وخفف عنك، فأكيد لم يكن الأمر بالسهل، وخاصة عندما تشعرين بأنه لا يوجد من يفهمك، أو يعرف حقيقة كل جرى معك، أو يعرف مشاعرك.

الامتهان الجنسي للأطفال، وخاصة الاغتصاب، من أشد أنواع الامتهان ضررا على الأطفال، سواء البنات أو الصبيان، وإن كان عند البنات أكثر حصولاً، ومع الأسف هو موجود في كل المجتمعات، وعلى نسب متفاوتة، وليس هناك مجتمع ممنّع من سوء المعاملة هذه، وإذا كان الامتهان من قبل فرد من أفراد الأسرة، أي سفاح المحارم، فالغالب أن الفاعل المعتدي هو: الأب أو زوجة الأب، أو الأخ، أو العم أو الخال، ومن خارج الأسرة هناك: الجار أو البائع أو السائق أو الخدم أو المعلم أو المدرب الرياضي، والشيء المؤلم في الامتهان الجنسي، أنه يقع من قبل الشخص المطلوب منه أصلا حماية الطفلة ورعايتها.

الواضح من سؤالك، أن الذي اعتدى عليك قد استغل طفولتك البريئة، ومشكلة الاعتداء الجنسي في الأسرة، أنه عندما ينكشف أمره فقد يؤدي لتفكك كامل الأسرة، وما ينتج عن ذلك من مضاعفات فردية وأسرية واجتماعية، ويتعرض الطفل الضحية لمشاعر مختلطة متناقضة مزعجة، فمن جهة يريد أن يخبر أي حد، إلا أنه يشعر بالخوف والتردد والغضب الشديد تجاه الجميع، وحتى الوالدين، لأنهما لم يحميانه من هذا الاعتداء.

هناك علاقة وثيقة بين الامتهان الجنسي، وخاصة الاغتصاب، وبين بعض الصعوبات النفسية وخاصة ضعف الثقة بالنفس، والتي يمكن أن تأخذ عدة أشكال كالرهاب وغيره، وبعض من تعرض للامتهان الجنسي، يعانون مستقبلا من بعض المشكلات الزوجية والجنسية عند اقتراب الزواج، وقد يتطور الأمر عندهم ليصبح الخوف من الزواج أصلا، وكما هو الحال معك ربما، ومع عدم توفر الرعاية الصحية النفسية المناسبة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فقد تعيش الضحية مع كل آلامها وحيدة لسنوات، لا يعلم أحد عن معاناتها إلا الله والمعتدي، فهي تخشى أن تبوح بالأمر، وما يمكن أن ينتج عن هذا عليها وعلى أفراد الأسرة، وخاصة مع الوصمة الاجتماعية على الضحية، والمعتدي وكامل الأسرة.

وكثير من الضحايا قد يعتادوا حياة معينة قريبة من الطبيعية، وحتى من دون تلقي العلاج أو الإرشاد النفسي المطلوب، ولكن بعضهم قد يحتاج للعلاج النفسي المتخصص، وأريدك أن تعرفي أولا أن ما حدث لك ليس من صنعك، ولا دور لك فيه، وأن ما حدث جريمة لا يُسأل عنها إلا مرتكبها، فأنت كنت طفلة صغيرة في 9 أو 10 من العمر، لا تدركين ما يحصل، ومن أين لك أن تعرفي وأنت طفلة، ومن أين لك أن تعلمي ما يصلح وما لا يصلح؟ فأنت طبعا لا تتحملين أي مسؤولية عما حدث، فلا تشعرين باللوم الذي قد يوحيه إليك بعض من ليس لديه خبرة في هذا الأمر، وليس بالضرورة أن تحصل لك أي مضاعفات جنسية وأنت مقبلة على الزواج، ولكن إن ظهرت بعض الأعراض أو الصعوبات، فقد يفيد بعض العلاج أو الدعم النفسي.

وبالرغم من الاعتداء الجنسي، وبالرغم من معاملة أبيك القاسية، وتعامله مع أمك بهذا الشكل، فأنت -ما شاء الله- استطعتِ متابعة الطريق والتعلم وتكوين نفسك -والحمد لله- أن كتب الشفاء لوالدتك، ولكن أرجو أن تعيدي النظر في موقفك من الزواج، فقد يكون هو العلاج، والمخرج من كثير من المعاناة التي مررت بها في الماضي، ولعل الله يكتب لك زواجا وحياة سعيدة مع هذا الشاب، طالما أنه مقبول بالنسبة لك.

أقترح أنك إن وجدت صعوبة في التكيّف مع حياتك، وصعوبة في تجاوز ما حدث، فأنصحك بمراجعة أخصائية نفسية، حيث تتاح لك فرصة الحديث عما جرى، وتفرغي ما في نفسك من العواطف والمشاعر الكثيرة، وبشكل آمن، بدلاً من إخراجها بشكل مرضيّ، ويمكن للأخصائية النفسية أن توفر لك العلاج النفسي المطلوب، مما يعينك على أن تصبحي إنسانة عادية طبيعية مثل الآخرين.

وفقك الله وحفظك من أي سوء، وأعانك على تجاوز ما حدث، ويسّر لك سبل النجاح والتوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات