الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تهافت الزعم بأن مجتمع المدينة كان ينتشر فيه الفسق والفجور

السؤال

أحد الأشخاص كتب مقالا وهذا جزء منه، فهل ما ورد صحيح ؟
إن من أكثر الوقائع غرابة قصة تشي بذلك التنوع الاجتماعي في المدينة فقد جاء رجل إلى الرسول يستشيره في زوجته التي يحبها ولكنها كانت سمحة مع الرجال فهي لا ترد يد لامس وتلين معهم ولا تتخذ رد فعل إزاء يد تمر عليها أو كلمة تلقى عليها، والمسكين كان بين نارين: نار الغيرة على شرفه، ونار حبه لها، فأشار عليه أن يمسكها إن كان يحبها ولا يطيق فراقه رواه النسائي عن ابن عباس، وقد أحدثت هذه القصة ارتباكاً عند الفقهاء فبعضهم ذهب إلى تكذيبها، وذهب بعضهم كالخطابي وابن الأعرابي إلى أن المرأة كانت لا ترد من أراد مضاجعتها. ويبدو أن الرسول حينما رأى أن الرجل من الضعف والمهانة إلى حد أن يأتي ويستشيره في امرأة هذا شأنها، خلافاً للمعروف من شيم العرب. اختار له ما يتناسب مع وسطه الاجتماعي، وقد احتفظت السنة وكتب التفسير بعدد من القصص التي تخبر عن بيوت الدعارة في المدينة في حياة الرسول كما تجده في تفسير سورة النور، عن سبب نزول آية ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً.
وفي قصة المخنث في صحيح البخاري الذي كان يوصي ويصف إحدى الغانيات في مكة مثالا يؤكد على ذلك.
وخلاصة ما ذكر هو أن القلة منا يكونون على اطلاع على هذه القصص التي حفظتها كتب التراث، ومع أنها منثورة في كتب السنة إلا أن التكتم عليها والقلق الذي يظهر على بعض الخطباء والعلماء حين يأتي ذكرها، تفصح عن عدم الأمانة ورغبة دفينة بمحو هذه الوقائع والحوادث في حياة الرسول ووقعت على مرأى منه، كما في قصة مغيث وبريرة بعد انفصالهما ورفضها العودة إليه وعدم قبولها لوساطة الرسول وسادة الصحابة، وإصرار مغيث على ملاحقتها في أزقة المدينة وفي السوق ودموعه تسيل من مآقيه، والرسول يشاهده ويتألم لأجله من دون أن يستدعيه أو يوبخه، أو يكلف أبا هريرة بالتجسس عليه، أو يبعث خلفه بعمر يعلوه بالسوط حتى يشفى من سقمه.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد اطلعنا على المقال المذكور بكامله.. وأول ما يلاحظ عليه أن كاتبه عنون له بهذا العنوان: حب على مرأى من النبي صلى الله عليه وسلم. وهو عنوان يخفي ما وراءه من سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بدليل ما أورد الكاتب بعد ذلك من عبارات تدل على ذلك، ومن هذه العبارات قوله: بيوت الدعارة في المدينة في حياة الرسول.

وقوله عن أحد الصحابة: ذات مرة جاء شاب إلى الرسول وبعد أن صلى معه أخبره أنه التقى بعشيقته في حديقة بعيداً عن أعين الناس، فكان منهما ما يكون بين العاشقين غير أنه حافظ على عذريتها.

وقوله عن صحابيتين حدثت بينهما مشاجرة فكسرت إحداهما سن الأخرى فوصفهما بقوله: خبيرتي ملاكمة.

ويضاف إلى هذا اتهامه العلماء والدعاة بعدم الأمانة والرغبة في محو بعض الوقائع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أورد العلماء هذه الأحاديث واستنبطوا منها دقائق الفقه ولكن بكل أدب بخلاف من لم يرزق فقها في الدين.

وليست قضيتنا مع هذا الكاتب فيما أورد من أدلة فهو قد أورد بعض الآيات وبعض الأحاديث الصحيحة، ولكن قضيتنا معه في الدعاوى العريضة والعبارات والألفاظ المشبوهة التي يوردها بناء على ذلك الدليل مما يجعلنا نتساءل، هل لهذا الكاتب من وراء ذلك من غرض ؟ وهل وراء هذا الغرض من مرض ؟!

وأما بالنسبة لمجتمع المدينة فهو لا شك أنه مجتمع فاضل، لم ير مثله في الإيمان والأخلاق، ولا شك أيضا أنه قد وجد فيه المنافقون وبعض أصحاب النفوس المريضة، ووجد فيه من يزل من أهل الإيمان فيقع في المعصية ولكنه سرعان ما يتوب ويرجع إلى الرحمن، وليس في هذا غرابة ولكن المشكلة أن يُجعل وجود شيء من الفساد في هذا المجتمع ظاهرة تنمق لها العبارات حتى ليخيل للقارئ طغيان ذلك على الخير. ومن أقرب الأمثلة على ذلك أيضا استخدامه عبارة بيوت الدعارة في المدينة في حياة الرسول!! مستنبطا ذلك من قصة حدثت من زعيم المنافقين، وعلى وجه الإكراه لبعض إمائه اللائي شهد الله لهن بالعفاف، وقد شنع القرآن هذا الفعل منه ونهى عنه أشد النهي، روى مسلم في صحيحه: عن جابر قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئا، فأنزل الله عز وجل: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فهل يعتبر هذا الأمر ظاهرة ويقف عندها ويستدل بها على وجود بيوت دعارة في المدينة إلا من كان في قلبه مرض، وجمع بين الجهل والظلم ؟!

وأما حديث: لا ترد يد لامس فقد رواه أبو داود والنسائي. وقول الكاتب إن من العلماء من ذهب إلى تكذيب القصة.. إن كان المقصود بذلك الطعن في ثبوتها من جهة الأصول الحديثية فنعم، فقد ذهب إلى عدم ثبوتها الإمام أحمد كما نقل عنه ابن الجوزي، وكذا النسائي في سننه. وليس ردهم للحديث لأجل الهروب مما تضمنه -كما يزعم الكاتب- وإنما لعلة في السند، ومن العلماء من ذهب إلى صحتها. وقد اختلف العلماء في المراد بهذه العبارة على أقوال، قال الحافظ في التلخيص: اختلف العلماء في معنى قوله: لا ترد يد لامس فقيل معناه الفجور وأنها لا تمتنع ممن يطلب منها الفاحشة، وبهذا قال أبو عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي وهو مقتضى استدلال الرافعي به هنا.

وقيل معناه: التبذير وأنها لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها، وبهذا قال أحمد والأصمعي ومحمد بن ناصر ونقله عن علماء الإسلام وابن الجوزي وأنكر على من ذهب إلى القول الأول.

وقال بعض حذاق المتأخرين قوله صلى الله عليه وسلم له: أمسكها معناه أمسكها عن الزنى أو عن التبذير إما بمراقبتها أو بالاحتفاظ على المال أو بكثرة جماعها.

ورجح القاضي أبو الطيب الأول بأن السخاء مندوب إليه فلا يكون موجبا لقوله طلقها، ولأن التبذير إن كان من مالها فلها التصرف فيه، وإن كان من ماله فعليه حفظه، ولا يوجب شيئا من ذلك الأمر بطلاقها، قيل: والظاهر أن قوله: لا ترد يد لامس أنها لا تمتنع ممن يمد يده ليتلذذ بلمسها، ولو كان كنى به عن الجماع لعد قاذفا، أو أن زوجها فهم من حالها أنها لا تمتنع ممن أراد منها الفاحشة؛ لا أن ذلك وقع منها.

والراجح هذا القول الأخير. وعلى فرض أن المراد بذلك أنها لا تمتنع عن الفاحشة فقد أخذ من العلماء من هذا من الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف إن أوجب عليه طلاقها أن تتوق نفسه إليها فيقع في الحرام. ذكر هذا شمس الحق أبادي في عون المعبود وذكره غيره. فأين هذا مما ذكر الكاتب من كون الرسول صلى الله عليه وسلم اختار للرجل ما يتناسب مع وسطه الاجتماعي... الخ عبارته كعادته في التهويل.

وأما قصة المخنث.. فهل كان وجود مثل هذه الطائفة ظاهرة منتشرة ؟ وهل أقر النبي صلى الله عليه وسلم وجود أمثاله أم أمر بإخراجه ومنع أمثاله من الدخول على النساء حفظا للمجتمع من أسباب الرذيلة ؟

وأما قصة مغيث مع بريرة رضي الله عنهما فقصة رجل مع زوجته، وما ضره لو تتبعها في شوارع المدينة فيظهر حبه لها عسى أن يشفع له ذلك في أمر رضاها باستمرار الحياة الزوجية بينهما، وهل يستقيم ذكر هذه القصة مع القصة التي أوردها الكاتب في بداية مقاله والتي فيها ما حصل من ذلك الشاب الذي كان يتبادل النظرات مع فتاة أجنبية عليه وبحضرة أبيها وإخوانها عند مجيئه لزيارتهم في بيتهم. وأين هذه القصة التي هي أقرب إلى كونها قصة خيالية من قصة رجل زل فقبل امرأة أجنبية عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفا من ذنبه راجيا أن يغفر الله له ؟!

فننصح هذا الكاتب – هداه الله - بالتوبة إلى الله تعالى، وأن يحذر أسباب سخطه وأليم عقابه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني