الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المسامحة والعفو.. رؤى أخلاقية شرعية

السؤال

عندي عدد من الأسئلة يا رب يتسع صدركم لي وجزاكم الله خيرا.
السؤال الأول :- كيف أسامح من يظلم ويحقر ويكذب ويكون السبب في كره الناس بعضهم ببعض عن طريق نقل الكلام الذي يؤلفه بنفسه من واقع حقده أقول لنفسي لو تاب يستحق أن نسامحه ولكن الذي يصمم هل هذه الصفات بالرغم من النصح فكيف لنا نسامحه ولو سامحنا كأننا نقول له زد من هذه الصفات الخبيثة ولا اعتراض لنا على ما تفعل .
السؤال الثاني : أعلق مسامحتي فمثلا أقول لو أن الله سبحانه غفر له لأنه مطلع على قلبه وهو الذي خلقه فسوف أسامحه ولو أراد الله سبحانه عقابه لأنه يستحق فلا أسامحه يعني أعلق مسامحتي بفصل الله بيننا هل هذا يجوز علما يشهد الله أن من داخلي لا أتألم على الأذية التي لحقت بي بقدر ما أتألم أنه في بشر مثل هؤلاء وأخشى عليهم كيف يقابلون الله وهم هكذا يعيشون بدون ضمير الهم الأكبر عندهم كيف أشبع ما بداخلي من أحقاد وغل ولا يهمهم النتيجة من هدم البيوت أو المشاعر أو الظلم المحرم أو قطع الأرحام والذي يفعلونه لا يقبلونه لأنفسهم فكيف يقبلونه على الناس ولو عاتبت بالحسنى كي توقظهم من الغفلة وتبين لهم أنهم على خطأ يتكبرون والنتيجة الشتائم والاستمرار في الظلم وإن تعاملوا يتعاملون بالأسلوب اللئيم الذي لا يتحمله الإنسان الشريف 00000
السؤال الثالث :- أصبحت أحس بالألم واستشرت طبيبا نفسيا وأصبحت عندي مرض نفسي بسبب هذه المشاكل وكتب لي علاج هل أنا مثابة بإذن الله . جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن مسامحة الظالم تعني إسقاط ما للعبد من حقوق عليه، ولا تعني إحلال ما حرم الله ولا إقراره على ظلمه، أو التساهل والتهاون بحدود الله.

جاء في الموسوعة الفقهية: يختلف الحكم التكليفي للعفو باختلاف ما يتعلق به الحق، فإن كان الحق خالصا للعبد فإنه يستحب العفو عنه، وإن كان حقا لله سبحانه وتعالى كالحدود مثلا، فإنه لا يجوز العفو عنه بعد رفع الأمر إلى الحاكم .

ولذلك لم يجز أن تكون المسامحة عن حق مستقبل؛ لأنه إباحة لما حرم الله. كما روي عن أبي حنيفة ومالك. وقد سبق ذكر هذا المعنى في الفتوى رقم: 52437.

والمظلوم له مع ظالمه ثلاثة خيارات:

الأول: أن يعفو ويصفح، لينال أجر المتقين الصابرين ومعية الله وعونه.

والثاني: الإمساك عن العفو والصفح ليلقى المذنب ربه بما اقترف من الإثم.

والثالث: المقاصة ومقابلة السيئة بمثلها دون تجاوز إن كان الحق مما تصح المقاصة فيه؛ بخلاف ما لا تصح فيه المقاصة كالنميمة والغيبة، وراجعي الفتوى رقم: 46548، والفتوى رقم: 15771.

ولا شك أن المقام الأول هو أعلى المقامات وأفضل الخيارات، لما جاء فيه من الأجر والثواب الذي سبق بيانه في الفتوى رقم: 54580.

وبهذا يتبين أن العفو والصفح لا يكون فقط مع من يستحق ذلك ممن أقر بخطئه وتاب إلى الله منه، واعتذر لصاحب الحق واستعفاه، بل حتى الظالم الذي لم يكن منه شيء من ذلك يستحب العفو عنه، لا لكونه أهلا لذلك، وإنما لينال المظلوم ثواب الله ورضاه، فهي في حقيقة الأمر معاملة مع الله تعالى القائل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ { المؤمنون: 96}.

وبهذا يتمهد الجواب على السؤالين الأول والثاني، فالمسامحة تكون للظالم حتى ولو لم يكن أهلا لذلك، ولا يحسن تعليقها على مغفرة الله له أيضا، وذلك لأن العفو إنما هو ثواب يسعى لتحصيله المظلوم، ومنزلة عند الله رفيعة يبتغي الوصول إليها، فلا ينبغي أن يعلق ذلك على شرط. ولذلك لما أذن الله في معاقبة الظالم بمثل فعله مقاصَّةً، رغب في العفو والصبر عليه وبيَّن أن ذلك خير للصابر نفسه بغض النظر عن حال الظالم، ثم رغب في تقواه والإحسان إلى خلقه، كما قال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ {النحل: 126-128}.

وأما السؤال الثالث المتعلق بحصول الثواب بسبب البلاء، فيكفي السائلة الكريمة مع ما سبق قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة: 155-157} وقوله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة. رواه مسلم.

قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بِشَارَة عَظِيمَة لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَنْفَكّ الْوَاحِد مِنْهُمْ سَاعَة مِنْ شَيْء مِنْ هَذِهِ الْأُمُور. وَفِيهِ تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَام وَمَصَائِب الدُّنْيَا وَهُمُومهَا، إِنْ قَلَّتْ مَشَقَّتُهَا. وَفِيهِ رَفْع الدَّرَجَات بِهَذِهِ الْأُمُور، وَزِيَادَة الْحَسَنَات، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء. اهـ.

وقد سبق بيان ماهية الصبر الذي ينال به الشخص أجر الصابرين في الفتوى رقم: 61485، وبيان فضيلة هذا الصبر وأنه من علامات قوة الإيمان، في الفتوى رقم: 36349، وما أحيل عليه فيها.

ثم ننبه السائلة الكريمة إلى ضرورة الجمع بين العلاج النفسي وبين العلاج الإيماني الذي يبنى على حسن الظن بالله وصدق التوكل عليه، والرضا بقضائه، وكثرة الدعاء والإلحاح والتضرع، والبعد عن المعاصي وأسبابها، والاجتهاد في الطاعات وفعل الخيرات، ويمكن أن تراجعي للفائدة في هذا الفتوى رقم: 29853.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني