الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تأملات في آيتي (والمستغفرين بالأسحار) و(وبالأسحار هم يستغفرون)

السؤال

ما هو الفرق بين الآيتين والمستغفرين بالأسحار وبالأسحار هم يستغفرون؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فكلا الآيتين مدح للاستغفار في هذا الوقت بعينه وقت السحر وهو آخر الليل، والفرق بينهما من وجهين، الأول: التقديم والتأخير. والثاني: التعبير بالاسم (المستغفرين) في الآية الأولى، وبالفعل (يستغفرون) في الآية الثانية.

وبيان ذلك أن الفصاحة العربية من قواعدها تقديم ما يستحق التقديم وتأخير ما يستحق التأخير، بحسب مراد المتكلم وما يقتضيه السياق.

قال سيبويه: إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى.

وقد عقد الجرجاني فصلا للتقديم والتأخير في كتابه الفذ (دلائل الإعجاز) وشرح فيه كلام سيبويه هذا وقال في أوله: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية. لا يزال يفتر لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة".

فالسياق في سورة آل عمران وارد في تفصيل صفات الذين اتقوا مطلقا، ومنها قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ {سورة آل عمران: 17}

وكلها صفات على نسق واحد ختمت بصفة الاستغفار، وقدم الاستغفار فيها على ذكر وقته الفاضل ـ الذي هو السحر ـ اهتماما واعتناء وتنويها بفضله في نفسه بقطع النظر عن وقته، ويدل على هذا الاهتمام ابتداء هذه الصفات في السياق نفسه بهذه الصفة ذاتها، وهي طلب المغفرة، كما قال تعالى قبلها مباشرة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران:16}.

ولذلك جاء التعبير بالاسم الذي يدل على الثبات والدوام، في حين أن التعبير بالفعل يدل على الحدوث والتجدد.

قال السيوطي: الاسم يدل على الثبوت والاستمرار، والفعل يدل على التجدد والحدوث، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر ... والمراد بالتجدد في الماضي الحصول وفي المضارع [ومنه آية سورة الذاريات التي معنا] أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى (الإتقان في علوم القرآن 2 / 578 ، 579 ، وانظر كذلك: البرهان في علوم القرآن 4 / 66 ،و مباحث في علوم القرآن ص 209، فالحاصل أن اختيار الاسم في هذا السياق أولى؛ إذ هو أدل على ثباتهم على حال الاستغفار واستمرارهم عليه، من بداية حالهم إلى نهايته. فهي صفة لازمة لهم.

بخلاف قوله تعالى في سورة الذاريات: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18}

حيث كان الوصف للمحسنين من المتقين، وهم خيرهم وأفضلهم، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18،17،16،15}

ومعلوم أن الإحسان هو أعلى مقامات الدين، فليس المراد مجرد ذكر كونهم يقومون بالليل ويستغفرون، ولكن كونهم لا ينامون من الليل إلا قليلا، وكونهم يستغفرون في أكمل الأحوال وأفضل الأوقات وأشقها استيقاظاً على الناس وأحبها راحة لديهم أو انشغالا بشهواتهم، وهو السحر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" متفق عليه.

وعن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله : أي الدعاء أسمع ؟ قال: جوف الليل الآخر. رواه الترمذي وحسنه، وحسنه أيضا الألباني.

ولذلك قالت عائشة: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر. متفق عليه.

وقال ابن كثير: قال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي {يوسف: 98} قالوا: أخرهم إلى وقت السحر. اهـ

وعبر هنا بالفعل الذي يدل على الحدوث والتجدد، فإنهم وإن كانوا يمدون صلاتهم إلى السحر، إلا أن حالهم عندئذ ليس بحال المانِّ بعمله المعجب به، وإنما يتجدد لهم في هذا الوقت وهم على تلك الحال من معاني الإيمان ومعرفة الله ما يوجب لهم طلب المغفرة وتكراره، فكانوا كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون:61،60} فهم يفتتحون قيامهم بالثناء على الله وطلب مغفرته ـ كما هو ثابت في السنة ـ ثم يتجدد لهم ما يدعوهم لإعادته وتكراره في ختامه أيضا، وهذا لكونهم محسنين يعبدون الله كأنهم يرونه، فيحتقرون أعمالهم في جنب الله ويتهمون أنفسهم ويقرون عليها بالتقصير والتفريط في حقه تعالى، كما ثبت أن الملائكة يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

ثم لا يخفى ما في كل آية من الآيتين من تناسب مع الفواصل السابقة لها في سورتها ورءوس آيها، وهذا أحد علوم القرآن، قال الزركشي: اعلم أن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تطرد متأكد جدا، ومؤثر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيرا عظيما. اهـ

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني