الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإفراط في محبة الأشخاص.. الأسباب..وسبل الوقاية

السؤال

لقد قرأت كافة الفتاوى الموجودة وقرأتها بتمعن ولكن للأسف لم أجد ما يتوافق مع حالتي وأتمنى منكم قراءة مشكلتي بتفاصيلها حتى أجد الحل المناسب وجزاكم الله كل خير ...
أنا شاب أبلغ من العمر 26 سنة تقريبا وأتمتع ببعض المواصفات الخاصة في شخصيتي ولله الحمد والمنة .. وقد لاحظت مدى جاذبيتي للكثير من الأصدقاء سواء كانوا أصغر مني أو أكبر سناً وذلك من خلال حوارهم معي ... ولكن هناك شخص عمره تقريبا 19 سنة أبدى لي إعجابه الخاص بي وذلك من خلال جلوسه الكثير معي ومحاورتي وأخذ رأيي في أموره الشخصية والخاصة جدا عطفا على معاملته الرائعة والتي لم أرها من خلال أصدقائه .. حتى أنه ذكر في أحد أحاديثه بأنه (( متعلق بي))..
سؤالي//كيف يمكنني التعامل مع هذا الشخص بالرغم من فارق السن بيننا ... مع خوفي أنا من التعلق به أيضا من خلال جلوسنا الكثير مع بعضنا البعض؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا شك أن التعلق بالأشخاص أمر مذموم، وهو من مصائد الشيطان التي يصيد بها قلوب بني آدم، فيلهيها عما خلقت له من محبة الله ومعرفته والأنس به والشوق إلى لقائه، فلا يبقى مع هذا الداء الخطير في قلب العبد حظ لربه جل وتعالى، بل حتى العبادات المحضة التي يتقرب بها العبد لمولاه يكون فيها قلب الشخص المتعلق هائماً مع من يحب. ومن مضار هذا التعلق أنه قد يوقع المرء في الشرك دون أن يدري، ونقصد بالشرك هنا شرك المحبة، فيشرك هذا الشخص حبيبه في عبادة من أهم عبادات القلب التي تصرف لله تعالى وحده!! ولذلك يحرص الشيطان على تزيينها في قلب العبد، ويلبسها لباس الأخوة في الدين والمحبة في الله، وشتان بين هذا وذاك.

وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإفراط في محبة الأشخاص وندبنا إلى الوسطية والاعتدال في ذلك فقال: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني. وهذا الحديث من الطب النبوي للقلوب، وهو من باب الوقاية من داء التعلق الوبيل.

ولهذا الداء العضال أسباب عدة أهمها:

1- ضعف محبة الله وتعظيمه في قلب العبد، فإذا ضعفت محبة الله في قلب العبد أتاه الشيطان فباض فيه وأفرخ، وغرس فيه محبة الدنيا والأشخاص والصور ونحو ذلك، أما إذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه، دفع ذلك عنه مرض التعلق والعشق، ولهذا قال تعالى في حق يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ ‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {يوسف:24} .

قال ابن القيم:في الجواب الكافي : وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما تمكن من قلب فارغ‏. انتهى.

2- الفراغ وعدم شغل الأوقات بما ينفع ويفيد، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك هي بالباطل، ولهذا قال بعض السلف: العشق حركة قلب ‏فارغ.

3- قلة العلم، فالمرء إذا قل علمه وضعفت معرفته اشتبهت عليه الأمور، واختلطت عليه الأوراق، ولم يميز بين الحق والباطل، فربما أدخل الشيطان عليه التعلق والعشق وألبسه ثوب الحب في الله، والأمر على خلاف ذلك تماما.

4- فعل المعاصي، ذلك أن الذنوب والآثام آفات متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض. قال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ {الصف: 5}، وقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ {المائدة: 49}. قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة سيئة بعدها.

5- ترك بعض الواجبات، فإنه من أسباب الابتلاء بالمعاصي وتسلط الشياطين، قال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف: 36} وقال سبحانه: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة:14} قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:... إن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة: 14} فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء. انتهى.

ولهذا الداء العضال مظاهر وعلامات يعرف بها، أهمها:

1- انشغال القلب دائما بالشخص المحبوب، سواء في حضوره أو غيابه.

2- المسارعة في تلبية طلباته وقضاء حاجاته وإيثار ذلك على كل شيء حتى على كثير من الطاعات.

3- الغيرة عليه من مصاحبة الغير له وجلوسه معه، وتعتبر هذه العلامة من أبرز علامات التعلق وأوضح أماراته.

4- الحديث عنه دائما أمام الناس وذكر صفاته الحسنة، والتغاضي عن صفاته السيئة، وغض الطرف عنها والتماس المبررات لها، بل ربما رأى المساوئ حسنات. وهذا من فساد القلب والعياذ بالله.

5- الغضب عند امتناع محبوبه عن لقائه أو تأخره عنه لسبب من الأسباب أو انشغاله بغيره من الناس، فيعتريه من الغضب والقلق والاضطراب لذلك ما لا يعلمه إلا الله، وهذا ما دعا امرأة العزيز إلى السعي في سجن يوسف عندما لم يجبها إلى مرادها.

أما سبل معالجة هذا الداء فنجملها فيما يلي:

1- الاستعانة بالله سبحانه وصدق اللجوء إليه وانطراح العبد على باب مولاه ذليلا كسيرا طالبا الدواء والعافية.

2- شغل الأوقات بما يفيد من مصالح الدين والدنيا.

3- الزواج، فإن من الأسباب الغالبة في نشوء مثل تلك العلاقات هو الفراغ العاطفي الذي يقع فيه من كان في هذه المرحلة، خصوصاً إذا كانت الجسور شبه مقطوعة مع الوالدين وباقي أفراد الأسرة. وهذه المرحلة تنتهي تلقائياً مع زيادة النضج العقلي للشاب، وبالزواج وإنجاب الأبناء والقيام على تربيتهم، فيحدث هذا له تفريغا لطاقاته العاطفية.

4- النظر في مفاسد مثل هذه العلاقات وما تجلبه من شغل القلب واضطرابه وحبسه وذله، وضياع الأوقات والمصالح من جراء ذلك.

وفي النهاية فإنا ننصحك أخي السائل في علاقتك بهذا الشاب بما يلي:

1- أن تحاول أن تأخذ بيده إلى ما يفيده في دينه ودنياه فتوجهه إلى ما يشتغل به من علم نافع أو عمل صالح.

2- أن تقلل من لقائه والاجتماع به، وليكن جلوسك معه إذا لقيته جلوسا قصيرا مهما كان الحديث نافعا حتى ولو كان في أمور الدين.

3- أن تدله على بعض أهل العلم ممن هو أسنّ منك ومنه ليصاحبه ويستشيره في كثير من الأوقات بدلا عنك،

ثم بعد ذلك إن وجدت تحسنا في الأمور واستقامة فالحمد لله على ذلك، أما إذا تطورت الأمور وزاد التعلق وخفت على نفسك الفتنة، عندها يجب عليك قطع علاقتك به فورا، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصا على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه. فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية.

وللفائدة تراجع الفتاوى رقم:52433، 58153، 65075، 21881، 36991

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني