الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فضل العمل والكسب على تركه توكلا وتعبدا

السؤال

كيف يمكننا الرد على شبهة الرزق والسعي له؟ لأن من الناس من يقول: إن الرزق مقدر، فلماذا نسعى له؟ أرجو من فضيلتكم أن تستفيضوا في التوضيح وأن تذكروا لي بعض المراجع التي يمكنني الرجوع إليها للازدياد.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

ففي كتاب ـ الآداب الشرعية والمنح المرعية ـ لابن مفلح الحنبلي، فصل مهم عن هذا الموضوع بعنوان: فضل التجارة والكسب على تركه توكلا وتعبدا ـ قال في مطلعه: سأل رجل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فقال: أربعة دراهم: درهم من تجارة ودرهم من صلة الإخوان، ودرهم من أجر التعليم، ودرهم من غلة بغداد، فقال: أحبه إلي من تجارة بزه وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان، وأما أجر التعليم، فإن احتاج فليأخذه، وأما غلة بغداد فأنت تعرفها فأي شيء تسألني عنها؟.

وقال المروذي: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله: إني في كفاية، قال: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على نفسك.

وقال أحمد للميموني: استغن عن الناس فلم أر مثل الغنى عن الناس.

وقال رجل للفضيل بن عياض ـ رحمه الله: لو أن رجلا قعد في بيته وزعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه؟ قال: إذا وثق به حتى يعلم أنه قد وثق به لم يمنعه شيئا أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد قال الله تعالى: وابتغوا من فضل الله.

ولا بد من طلب المعيشة.

وقال إبراهيم النخعي ـ رحمه الله ـ وسئل عن الرجل يترك التجارة ويقبل على الصلاة، يعني ورجل يشتغل بالتجارة، أيهما أفضل؟ قال: التاجر الأمين.

وترك سعيد بن المسيب دنانير فقال: اللهم إنك تعلم إني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه ويصل رحمه ويكف به وجهه.

وقال سفيان ـ رحمه الله: ليس من حبك الدنيا أن تطلب فيها ما يصلحك.

قال المروذي: وقد أنكر أبو عبد الله على المتوكلين في ذلك إنكارا شديدا، وقال في رواية عبد الله: ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله عز وجل، ولكن يعودون أنفسهم بالكسب، فمن قال بخلاف هذا القول فهذا قول إنسان أحمق، قال: وسمعت أبي يقول: الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس.

وقال صالح: سئل أبي ـ وأنا شاهد ـ عن قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون، فقال: هؤلاء مبتدعة.

قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: إن ابن عيينة كان يقول هم مبتدعة، فقال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا.

وقال في رواية أبي الحارث: إذا جلس الرجل ولم يحترف دعته نفسه إلى أن يأخذ ما في أيدي الناس، فإذا شغل نفسه بالعمل والاكتساب ترك الطمع. اهـ.

وقال ابن حجر في الفتح: المراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي. وقال: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.

قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم. اهـ.

وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب عامة الفقهاء ومحققوا الصوفية إلى أن التوكل على الله لا يتنافى مع السعي والأخذ بالأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من الأعداء وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة، مع الاعتقاد أن الأسباب وحدها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب ـ العلاج ـ والمسبب ـ الشفاء ـ فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته.

وقال سهل: من قال: التوكل يكون بترك العمل فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الرازي في تفسير قوله تعالى: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله. دلت الآية: على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال، وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل على الله أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على الله تعالى. اهـ.

وجمهور علماء المسلمين على أن التوكل الصحيح، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونه تكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا في العقل.

قال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.

وقد تواتر الأمر بالأخذ بالأسباب في القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرج ابن حبان في صحيحه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وقال: أأعقلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعقلها، وتوكل.

وقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.

وقال تعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. والغنيمة اكتساب.

وقال تعالى: فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. والضرب عمل.

وقال: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم.

وقال: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. اهـ.

وقد سبق لنا في عدة فتاوى بيان أن التوكل الحقيقي لا ينافي الأخذ بالأسباب، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 53203، 20441،18784، 15012، 52503.

ولزيادة الفائدة يرجى الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 29607، 62010، 95493.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني