الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إخبار الخاطب لخطيبته بعمله الصالح لإقناعها بقبوله هل يعتبر رياء

السؤال

هل إخبار الفتاة التي أنوي خطبتها بأعمالي الصالحة بنية أن أقنعها بقبولي يعد ذلك رياء؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فننصح بالبعد عن إخبارك بالعمل الصالح لهذا الغرض المذكور محافظة على ثوابك، وتأسيا بسلفنا الصالح في البعد عن الحديث بأعمالهم ولو لم يكن هناك غرض دنيوي. ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع النبي في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. وحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذاك قال: ما كنت أصنع بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه.

قال الإمام النووي: في هذا استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى، ولا يظهر شيئاً من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار بذلك. اهـ

وأما هل هذا الإخبار من الرياء فلا يظهر أنه كذلك، لأن الرياء هو فعل العمل ابتداء من أجل مدح أو نفع الناس.

قال الهيتمي: وحد الرياء المذموم إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وكماله حتى يحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء . اهـ

ولكنه يحتمل دخوله في السمعة ويخشى بطلان العمل به كما قال بعض أهل العلم.

قال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس. اهـ. من فتح الباري.
وقال أبو طالب المكي قي قوت القلوب في معاملة المحبوب: وقد روينا في الخبر : لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان ، فجمع بين المنة والسمعة ، كما جمع بين السمعة والرياء ورد بهن الأعمال ؛ فالمسمع الذي يتحدث بما صنعه من الأعمال ليسمعه من لم يكن رآه ، فيقوم ذلك مقام الرؤية ، فسوى بينهما في إبطال العمل لأنهما عن ضعف اليقين ، إذ لم يكتف المسمع بعلم مولاه ، كما لم يقنع المرائي بنظره فأشرك فيه سواء، وألحق المنان بهما لأن في المنة معناهما من أنه ذكره فقد سمع غيره به ، أو رأى نفسه في العطاء ففخر به وأداه سرا ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به محي من السر والعلانية فكتب رياء ...اهـ

وقال العلامة محمد مولود الشنقيطي في مطهرة القلوب:

والسمعة الاخبار بالطاعات * بعد خلوصها من الآفات

لبعض أغراض الرياء والعمل * تفسده ولكن إن تبت اندمل اهـ

وأغراض الرياء قال فيها الهيتمي مبينا مراتبها : أقبحها أن يقصد التمكن من معصية كمن يظهر الورع والزهد حتى يعرف به فيولى المناصب والوصايا، وتودع عنده الأموال، أو يفوض إليه تفرقة الصدقات وقصده بكل ذلك الخيانة فيه، وكمن يذكر أو يعظ أو يعلم أو يتعلم للظفر بامرأة أو غلام، ثم فهؤلاء أقبح المرائين عند الله تعالى، لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته ووصلة إلى فسقهم وتسوء عاقبتهم . ويليها من يتهم بمعصية أو خيانة فيظهر الطاعة والصدقة قصدا لدفع تلك التهمة . ويليها أن يقصد نيل حظ مباح من نحو مال أو نكاح ، أو غيرهما من حظوظ الدنيا . ويليها أن يقصد بإظهار عبادته وورعه وتخشعه ونحو ذلك أن لا يحتقر وينظر إليه بعين النقص ، أو أن يعد من جملة الصالحين وفي الخلوة لا يفعل شيئا من ذلك، ومن ذلك أن يترك إظهار الفطر في يوم يسن صومه خشية أن يظن به أنه لا اعتناء له بالنوافل ...اهـ
وقد ذكر ابن القيم خلافا في حبوط العمل بهذا فقال في البدائع: المعلوم من قاعدة الشرع أن إبطال ما وقع من الأعمال إنما يكون بأسباب نصبها الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال كالردة المبطلة للإيمان، والحدث المبطل للوضوء، والإسلام المبطل للكفر، والتوبة المبطلة لآثار الذنوب، وقريب منه المن والأذى المبطل للصدقة وفي الرياء اللاحق بعد العمل خلاف . اهـ

ومال الغزالي إلى أن ما يطرأ بعد انتهاء العمل من التحدث به لا يكون مبطلا لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها، فقد قال في الإحياء : إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ، فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالما عن الرياء، فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه، نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به فهذا مخوف، وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فهذا مخوف ....ثم ساق آثارا في ذلك ثم استبعد أن يكون ذلك الطارئ مبطلا لثواب العمل . فقال : بل الأقيس أنه مثاب على عمله الذي انقضى ويعاقب على مراءاته بطاعة الله ولو بعد فراغه منها بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء في أثنائها فإنه يحبطها بل يفسدها إن تمحض قصد الرياء، فإن لم يتمحض لكنه غلب حتى انغمر قصد القربة فيه فهذا يتردد في إفساده للعبادة . .... اهـ

هذا وننبه إلى أن الخطيبة أجنبية ينبغي أن يكون الحديث بقدر الحاجة من دون خلوة ولا تلذذ بصوتها ولا نظر لما يحرم نظره منها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني