الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز الكذب حتى لا يقع الأخ في سب الدين

السؤال

أرجو إجابة سريعة من فضلكم, فلدي أخ يسب الدين الإسلامي كثيرًا لأتفه الأسباب؛ حتى عندما يكون سعيدًا، فمرة اشترى والدي الكثير من الكعك فأخذت واحدة, وأخي هذا أكل الكثير كعادته, وعندما جاءت أختي لم تجد حصتها، فغضب أبي وناداني أنا أولًا, فلم أعرف ماذا أفعل, هل أكذب عليه, وأقول: أنا أكلتهم لكي لا ينادي أخي فيؤنبه, وهناك احتمال كبير جدًّا أنه سيسب الله والدين، أم أنفي ذلك عني؟ فسألني أبي أين ذهب الكعك؟ فأجبته: لا أدري, فقد أكلت واحدة فقط، ثم أحسست بندم, خصوصًا أني نفيت ذلك أكثر مما كنت أريد, فلو قلت له مثلًا لا أدري فقط فسيشك فيّ, خصوصًا أنه لا يحب تأنيبي, وندمت كثيرًا, فما حكم هذا؟ ولو كانت أختي هي التي سألتني كنت سأكذب عليها لكني أحاول أن أحافظ على سمعتي عند أبي, أيعد فعلي هذا كفرًا؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فسب الدين كفر، وراجعي الفتاوى: 133، 1327، ويجب عليك مناصحة أخيك، ودعوته، وإن أصر فيمكن أن تهجريه حسب المصلحة، وراجعي الفتوى: 28560.

وأما إرادتك الكذب حتى لا يعاقب فيسب الدين فليس بصحيح؛ لأن الكذب محرم، فلا يجوز فعله سدًّا لذريعة وقوع الأخ في سب الدين، إذ من شرط سد الذريعة ألا تؤدي إلى ترك واجب أو فعل محرم، وراجعي الفتوى: 62533.

وإثم السب هنا واقع عليه، لا عليك, قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ {التوبة:49}

قال ابن كثير: يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ: {ائْذَنْ لِي} فِي الْقُعُودِ {وَلا تَفْتِنِّي} بِالْخُرُوجِ مَعَكَ، بِسَبَبِ الْجَوَارِي مِنْ نِسَاءِ الرُّومِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أَيْ: قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا. ... أَيْ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَعْظَمُ. انتهى

فترك الواجب بدعوى ترك الفتنة، أو سدًّا للذريعة هو فتنة بنص الآية.

وقولك: "لو كانت أختي هي التي سألتني كنت سأكذب عليها؛ لكني أحاول أن أحافظ على سمعتي عند أبي" يقال فيه: الواجب ترك الكذب لله، لا لأبيك ولا لأختك، فمن شرط العمل الصالح ان يكون لله, لا لطلب الجاه والسمعة؛ قال ابن القيم في مدارج السالكين: أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حَقِيقَةً، فَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَأَقْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَعَطَاؤُهُمْ لِلَّهِ، وَمَنْعُهُمْ لِلَّهِ، وَحُبُّهُمْ لِلَّهِ، وَبُغْضُهُمْ لِلَّهِ، فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَلَا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ، وَلَا طَلَبَ الْمُحَمَّدَةِ، وَالْمُنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُّوا النَّاسَ بِمَنْزِلَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ، وَابْتِغَاءُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ، وَرَجَاؤُهُمْ لِلضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ مِنْ عَارِفٍ بِهِمُ الْبَتَّةَ، بَلْ مِنْ جَاهِلٍ بِشَأْنِهِمْ، وَجَاهِلٍ بِرَبِّهِ، فَمَنْ عَرَفَ النَّاسَ أَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَخْلَصَ لَهُ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ، وَعَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وَلَا يُعَامِلُ أَحَدَ الْخَلْقِ دُونَ اللَّهِ إِلَّا لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ وَجَهْلِهِ بِالْخَلْقِ، وَإِلَّا فَإِذَا عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ النَّاسَ آثَرَ مُعَامَلَةَ اللَّهِ عَلَى مُعَامَلَتِهِمْ. انتهى.

والحاصل أن ما قمت به من الصدق هو الصواب، وأن عليك أن تصدقي مع أختك وأبيك وسائر الناس، فهذا هو الواجب، وليس معصية ولا كفرًا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني