الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سب الظالم: ما يجوز وما لا يجوز

السؤال

جزاكم الله خيرا على الجهد المبذول في موقعكم الذي نال ثقة الكثيرين، وجعله الله في ميزان حسناتكم، وسؤالي يتعلق بضابط السب الذي يجوز للحاجة أو المصلحة، إذا كان هناك حاكم ظالم مسئول بطريق مباشر أو غير مباشر عن قتل الكثيرين وسجنهم بغير حق، فهل هذا مسوغ شرعي لسبه؟ وهل المقصود بجواز سبه قول القائل يا ظالم يا قاتل؟ أم أنه يجوز سبه بأكثر من ذلك مما يكون إهانة له وتضييعا لهيبته؟ وهل يجوز ذلك حتى لو كان قبيحا فاحشا متفحشا مستقبحا عند النفوس السوية عرفا مما لا يتضمن قذفا له أو لأحد من أهله؟ وهل ترك ذلك أولى؟ نرجو الإجابة مشفوعة بأقوال ساداتنا فقهاء المذاهب الأربعة والمفسرين وشارحي السنة النبوية المطهرة.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالإسلام يحمل أتباعه على عفة اللسان واجتناب فحش القول، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا. قال المنذري: رواه أحمد والطبراني، وإسناد أحمد جيد ورواته ثقات ـ وحسنه الألباني.
وقد تكاثرت الأحاديث النبوية في هذا المعنى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: البذاء من الجفاء، والجفاء في النار. قال المنذري: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح ـ وصححه الألباني.

وقوله أيضا صلى الله عليه وسلم: إياكم والفحش والتفحش، فإن الله لا يحب الفاحش المتفحش، وإياكم والظلم، فإنه هو الظلمات يوم القيامة. قال المنذري: رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد ـ وصححه الألباني.

وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي الرشيد مع أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وعلَّم أمته ذلك، فعن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: وعليكم، قالت عائشة: قلت: بل عليكم السام والذام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لا تكوني فاحشة، فقالت: ما سمعت ما قالوا؟! فقال: أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا، قلت: وعليكم.
وفي رواية: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له.

وفي رواية للبخاري: أن عائشة قالت: عليكم، ولعنكم الله وغضب الله عليكم، فقال صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث آخر: لو كان الحياء رجلا كان رجلا صالحا، ولو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء. قال المنذري: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وأبو الشيخ أيضا، وفي إسنادهما ابن لهيعة وبقية رواة الطبراني محتج بهم في الصحيح ـ وحسنه الألباني بطرقه.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 45354.

وراجع في ما يجوز من السب الفتويين رقم: 199315، ورقم: 34205.

وأما بالنسبة للحاكم المسلم إذا ظلم وجاهر بظلمه وجوره: فإنه يجوز سبه بذكر مظالمه التي جاهر بها، ويبقى ما سوى ذلك على الأصل في ترك فحش القول، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 201613، 57536، 233662، 192805.

وقد ذكر الله طرفا من أحوال المنافقين وخصالهم ثم قال: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ {النساء: 148}.

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها: أن الله لما شوه حال المنافقين وشهر بفضائحهم تشهيرا طويلا، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفورا من النفاق وأحواله، وبغضا للملموزين به، وخاصة بعد أن وصفهم باتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنهم يستهزئون بالقرآن، ونهى المسلمين عن القعود معهم، فحذر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسمون فيه النفاق، فيجاهروهم بقول السوء، ورخص لمن ظلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأن ذلك دفاع عن نفسه، روى البخاري: أن رجالا اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدخشم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله: لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله، فقال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين ـ الحديث، فظن هذا القائل بمالك أنه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنه منافق لا يحب الله ورسوله، فلعل هذه الآية نزلت للصد عن المجازفة بظن النفاق بمن ليس منافقا... وقد دلت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حد التظلم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم وأن يقول للناس إنه ظالم، ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا، لأن الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مخصوص بما لا يؤدي إلى القذف، فإن دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرض لحد القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة. اهـ.

وذكر ابن عطية في المحرر الوجيز الخلاف في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك، فقال: قال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعنّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد من ظلمي وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو أحسن له، وقال مجاهد وغيره: هو في الضيف المحول رحله، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول، فقد رخص له أن يقول فيه، وفي هذا نزلت الآية ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها، وقال ابن عباس والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول.

قال ابن عطية: فهذه الأقوال على أربع مراتب:
قول الحسن: دعاء في المدافعة، وتلك أقل منازل السوء من القول.
وقول ابن عباس: الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء.
وقول مجاهد: ذكر الظلامة والظلم.
وقول السدي: الانتصار بما يوازي الظلامة.
وقال ابن المستنير: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ـ معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفرا أو نحوه. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني