الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ظن بشخص أنه كافر فتبين أنه مسلم.. رؤية شرعية

السؤال

ما حكم من ظن بشخص أنه غير مسلم، ثم تبين له العكس؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن سوء الظن بالمسلم محرم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك من بيت ما أعظمك، وأعظم حرمتك، ولَلْمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. إن الله حرم منك واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثا: دمه، وماله، وأن يظن به ظن السوء.

والحديث أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة؛ وراجع الفتوى رقم: 28676، والفتوى رقم: 51110. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 60923.

ومحل ذلك إذا كان هذا المسلم في بلاد المسلمين؛ فإن كان في بلاد الكفار لم يستو الحكم، ولم يأثم من ظنه كافراً؛ فقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً، لم يُغر عليهم حتى يصبح وينتظر، فإن سمع الأذان كف عنهم، وإلا أغار عليهم.

وهذا بناء على أن الأصل أنهم كفار -وهو الأصل في سكان دار الكفر-؛ فإذا سمع الأذان، فهو الدليل الصارف عن هذا الأصل.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وإلا أغار عليهم مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في الإسلام. انتهى.

وروى النسائي، وأبو داود، والترمذي عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل. وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. قال الألباني: صحيح دون جملة العقل.

جاء في تحفة الأحوذي: قال في فتح الودود: لأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين الكفرة، فكانوا كمن هلك بفعل نفسه، وفعل غيره، فسقط حصة جنايته. انتهى.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. سورة النساء (94).

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري تعليقا عليها: وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام، لم يحل دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة .. إلى أن قال: ولا يلزم من الذي ذكرته الحكم بإسلام من اقتصر على ذلك، وإجراء أحكام المسلمين عليه، بل لا بد من التلفظ بالشهادتين على تفاصيل في ذلك بين أهل الكتاب وغيرهم. انتهى.

فإذا كان هذا فيمن أظهر شيئا من علامات الإسلام، فكيف بمن لم يظهر شيئا من ذلك!

تبقى صورة ثالثة، وهي أن يكون في بلد مسلم، ولكن عليه علامات الفجور؛ فبعض أهل العلم أشار إلى أنه أهل لسوء الظن.

قال القرطبي في تفسيره: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث. ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" لفظ البخاري.

قال علماؤنا: فالظن هنا، وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة، أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء، ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به، والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث...

وقال: وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح. قاله المهدوي. اهـ.

قال ابن مفلح في الآداب: قال ابن هبيرة الوزير الحنبلي: لا يحل والله أن يحسن الظن بمن ترفض، ولا بمن يخالف الشرع في حال. اهـ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ( بَابُ مَا يَكُونُ مِنْ الظَّنِّ ) ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا. وَفِي لَفْظٍ:"دِينِنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ" قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ. انتهى.

وقال الذهبي في الكبائر: وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض، ولا غرض (أي بلا عذر يبيح ذلك) أنه شر من الزاني، ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال. انتهى.

فقد يُؤخذ من هذا أنه لو كان ظاهر أفعاله الكفر؛ فلا إثم على من ظن به ذلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني