الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التحسر والندم على الفائت من الدنيا

السؤال

هل يكون في حياة المؤمن بالقضاء والقدر ندم على المصائب، وما يفوت من الدنيا، ولا أتكلم عن الندم في التفريط في الطاعة، ولا على ارتكاب المعصية؟ وبطريقة أخرى؛ هل يصح ألا يندم المسلم إلا في باب الطاعة، والمعصية؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن هناك فرقًا بين الفائت من أمر الدنيا، والفائت من أمر الآخرة، فالحزن على الأول مضر مذموم غالبًا، وعلى الثاني نافع محمود مطلقًا، قال ابن الجوزي في كتابه الطب الروحاني: العاقل لا يخلو من الحزن؛ لأنه يتفكر في سالف ذنوبه، فيحزن على تفريطه... فأما إذا كان الحزن لأجل الدنيا وما فات منها، فذلك الحزن... فليدفعه العاقل عن نفسه، وأقوى علاجه أن يعلم أنه لا يرد فائتًا، وإنما يضم إلى المصيبة مصيبة، فتصير اثنتين، والمصيبة ينبغي أن تخفف عن القلب وتُدفَع، فإذا استعمل الحزن والجزع، زادت ثقلًا. اهـ.

وقال أيضًا: من اغتمَّ لما مضى من ذنوبه، نفعه غمه على تفريطه؛ لأنه يثاب عليه، ومن اهتم بعمل خير، نفعته همته، فأما إذا اغتم لمفقود من الدنيا، فالمفقود لا يرجع، والغمَّ يؤذي، فكأنه أضاف إلى الأذى أذى. اهـ.

والإيمان بالقضاء والقدر يزيل ندم العبد على ما فاته من الدنيا، وإلا فإنه يخففه، ويضبطه، فلا يخرج معه العبد إلى حد التسخط، والجزع المحرم، وقد سبق لنا بيان أن الصبر والرضا بقضاء الله لا يتعارضان مع وجود التألم والحزن، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 184237، ورقم: 133621.

وبحسب كمال الإيمان يزول التحسر، والندم على الفائت من الدنيا، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {الحديد: 22ـ 23}.

وليس في هذه الآية نفي لوجود الحزن، أو الندم بالكلية، وإنما فيها النهي عما يضاد الصبر من ذلك، قال الزمخشري في الكشاف: إن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها، أن لا يحزن، ولا يفرح!

قلت: المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر، والتسليم لأمر الله، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه، مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله، والاعتداد بها، مع الشكر: فلا بأس بهما. اهـ.

وتبعه على هذا المعنى جماعة من المفسرين، كالبيضاوي، والنيسابوري، والسمعاني، وقال القرطبي: الحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز. اهـ.

وقال ابن عطية في المحرر الوجيز، وتبعه الثعالبي في الجواهر الحسان، والعُلَيْمي في فتح الرحمن: قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ـ يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال، والفخر، وأما الفرح بنعم الله، المقترن بالشكر، والتواضع، فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه، ولا حرج فيه. اهـ.

وقال القاري في مرقاة المفاتيح: أما قوله تعالى: لكي لا تأسوا على ما فاتكم ـ فالمراد منه الأسف مع الصياح، والفرح مع الصياح، نقل عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني