الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الناس كلهم متساون في الفطرة على الجبلة المستقيمة

السؤال

في تفسير الوسيط للطنطاوي لسورة الأنفال آية 23 ذكر أنه "بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد، و الضلالة على الهداية." فما معنى جبلوا عليه؟ هل معنى تلك فطرتهم؟ أليس كل شخص يولد على فطرة، ولديه الاختيار ليسلك طريق الخير أو طريق الشر؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه لا شك أن كل مولود يولد على الفطرة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟

وقد جعل الله تعالى في عباده الاستعداد لقبول الخير والشر، كما قال الله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {الإنسان:3}. وقال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ. {البلد:10}. وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا.{الشمس10،9،8،7}.

فمن تربى في بيئة متمسكة بالفطرة بقي على الفطرة، وسلك سبيل الخير والرشد والهدى، وأما المنحرف عن الفطرة فيتأثر بسبب البيئة والمؤثرات التي يعايشها، فيضل اقتداء بأبويه، أو بإغواء الشياطين؛ كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ {الزخرف:23}

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ...

قال ابن كثير في تفسير آية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ {الأعراف:172} يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن اللّه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. وفي رواية: على هذه الملة. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. ... اهـ
وقال ابن كثير أيضًا في تفسير قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: يقول تعالى: فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه اللّه لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك اللّه لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر اللّه الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وذكر أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك. اهـ

وقال ابن حجر في فتح الباري: الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق. انتهى
ونقل ابن حجر عن الطيبي قال: والمراد تمكُّن الناس من الهدى في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد. انتهى

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضاً كل ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مراً، ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالعقل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاَ، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلماً، وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع.. هي فطرة الله التي فطر الناس عليها. انتهى.

وأما عن كلام الشيخ الطنطاوي وعن علاقة الجبلة بالفطرة، فإن الفطرة والجبلة معناهما واحد. يقال جبله الله على كذا وفطره عليه أي خلقه عليه.

قال الفيروز آبادي: كلّ مولود يولدَ على الفِطْرة: أَي على الجبلَّة القابلة لدين الحقِّ. اهـ.

وقال المناوي في التعاريف: الفطرة الجبلة المتهيئة لقبول الدين، كذا عبر ابن الكمال، وقال الراغب: هي ما ركب الله في الإنسان من قوته على معرفة الإيمان، وقال الشريف: الخلقة التي جبل عليها الإنسان. اهـ.

قال الراغب: قولهم جبله الله على كذا، إشارة إلى ما ركب فيه من الطبع الذي لا يتنقل كأنه جبل. اهـ

فلعل الشيخ أراد بهذا الكلام أن هؤلاء تخلقوا بإيثار الغي على الرشد، والضلالة على الهداية بعد كبرهم، وهذا قد يتخلق به أهل الكفر -نعوذ بالله- بسبب إغواء الشياطين التي اجتالتهم عن دينهم، أو بسبب تقليد الآباء كما قدمنا، فينطبع ذلك في نفوسهم، ولا نظنه أراد أنهم ولدوا مفطورين على هذا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني