الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاقتداء في الصلاة السرية بإمام لا يعلم حاله هل يلحن أم لا

السؤال

جزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
أنا شاب سوري مقيم في إسطنبول، ملتزم بالصلاة مع الجماعة في المسجد، وقراءتي بالقرآن الكريم ممتازة، برواية حفص عن عاصم، لكن أئمة المساجد هنا كلهم -إلا من رحم الله- حليقو اللحى، مسبلو الثياب، وقراءتهم فيها لحن -إلا قلة- أقله أن يقلب الحاء هاء، فمثلاً الشيخ الذي صلى بنا اليوم -يوم كتابة السؤال- يلحن في حرف الحاء، لكن أمره عجيب، فهو يلحن في الفاتحة في كلمة الحمد، يقلب الحاء هاء، وفي كلمتي الرحمن الرحيم، يلفظهما بين الحاء والهاء، ثم في السورة بعد الفاتحة، يلفظ الحاء حاء كما هي، إلا في بعض الكلمات، هذا بشكل عام.
أما بالنسبة لي: فإذا كنت في العمل، فهل يجوز أن أقتدي بهذا الإمام -مع العلم أني حريص على إدراك تكبيرة الإحرام- أم أصلي في العمل منفردًا؟ حيث إن الرجال الأتراك الذين معي في العمل يصلون كل واحد وحده، فقلت لأحدهم: لنصلي جماعة هنا في العمل، فقال لي: (لا)، وهل تجب عليّ إعادة الصلاة إذا اقتديت بهذا الإمام؟ وهل يجوز أن أصلي منفردًا، حال كون أحدهم يصلي أيضًا منفردًا، يعني في آن واحد نصلي منفردين؟
وفي البيت هل أصلي بالشباب الذين معي جماعة، أم أصلي في المسجد مقتديًا بإمام ذكرت مواصفاته أعلاه؟ وفي الشارع أو السوق: إذا أدركني وقت صلاة، وكانت سرية، فهل أصلي وأقتدي بإمام لا أعرف قراءته -والغالب في البلد اللحن في القراءة؛ لأنهم أعاجم- أم ماذا أفعل؟
وإذا كانت الصلاة جهرية، فهل أقتدي به بحسب قراءته، فإذا كانت جيدة اقتديت، وإذا كان فيها لحن فاحش أعيد الصلاة، أم أقطع الصلاة مقتديًا به، وأصلي وحدي؟ أجيبوني مأجورين؛ لأن الأمر أصبح يسبب لي الكثير من الحيرة.
للفائدة: لا يمكن أن أتقدم للإمامة هنا؛ لأن هذا الإمام معين من قبل الحكومة، أو الأوقاف، وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فنقول ابتداء: إن الفقهاء مختلفون في وجوب صلاة الجماعة، فمنهم من يرى أنها واجبة في المسجد، ومنهم من يرى أنها واجبة في الجملة، ولو في غير المسجد، وجمهور أهل العلم على أنها مستحبة وليست واجبة.

وكذا اختلفوا في صحة الاقتداء بالفاسق، كالمصر على حلق اللحية، مع علمه بالتحريم، جاء في الموسوعة الفقهية: الْفَاسِقُ: مَنْ فَعَل كَبِيرَةً، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، ... وَقَال الْحَنَابِلَةُ -وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ-: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ... أَوِ اعْتِقَادٍ ... اهـ.

وكذا إبدال الحاء هاءً في قوله تعالى من سورة الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ {الفاتحة:2}، اختلف الفقهاء في كونه مما يغير المعنى، فتبطل الصلاة به، أم لا يغير المعنى، وتصح الصلاة به؟ على قولين، وقد ذكرنا في الفتوى رقم: 237088 قول من يرى صحة الصلاة.

قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: وَعَدَّ الْقَاضِي مِنْ اللَّحْنِ الَّذِي لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى، الْهَمْدُ لِلَّهِ بِالْهَاءِ، وَأَقَرَّهُ فِي الْكِفَايَةِ، لَكِنْ عَدَّهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ كَجٍّ، مِنْ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ ... اهـ.

فلو أنك تركت الاقتداء بهؤلاء احتياطًا للعبادة، ومراعاة لقول من يرى عدم صحة الاقتداء بهم، فلا حرج عليك، لا سيما وأن صلاة الجماعة ليست واجبة في قول الجمهور،- كما ذكرنا- واحرص على أدائها جماعة بمن يسكن معك في البيت، أو غيرهم حتى تنال ثواب الجماعة؛ فإن تحصيل ثوابها ليس محصورًا في المسجد، وإذا اقتديت بهم لم نر وجوب الإعادة عليك، ما دام أن عدم صحة الاقتداء بهم ليس أمرًا متفقًا عليه، ولو أعدتها احتياطًا، فهو أفضل.

ولا حرج عليك أن تصلي منفردًا في مصلى العمل، إذا وجدت شخصًا آخر يصلي منفردًا، ولا يلزمك شرعًا الاقتداء به.

وإن اقتديت بشخص، ثم تبين لك أنه يلحن لحنًا تبطل به الصلاة، فلا حرج عليك في قطع نية الاقتداء به، وتكمل صلاتك منفردًا؛ لأن الخوف من بطلان الصلاة عذر يبيح ترك الاقتداء بالإمام، كما قال ابن قدامة في المغني: وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ، وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ، جَازَ ... وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يَخْرُجُ لِأَجْلِهَا، مِثْلُ الْمَشَقَّةِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ، أَوْ الْمَرَضِ، أَوْ خَشْيَةِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ، أَوْ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، ... إلخ. اهــ مختصرًا.

ولك أن تقتدي بإمام لا تعلم حاله في الصلاة السرية، ولا تطالب شرعًا بالتنقيب والبحث هل يلحن أم لا، والغالب فيمن تصدر للإمامة أن يحمل على صلاحيته لها، وأنه لا يلحن على الأقل لحنًا يترتب عليه بطلان الصلاة، فلا تُمنع الصلاة خلفه لمجرد الشك، أو الجهل بحاله، قال النجدي في حاشيته على الروض: ولو اقتدى في سرية بمن لا يعرف حاله، لم يجب البحث عن كونه قارئًا؛ بناء على الغالب. اهـ.

بل لو ظهر لك بعد الصلاة أنه لحن لحنًا تبطل به الصلاة، لم تلزمك الإعادة، ما دمت لم تعلم بذلك، قال الماوردي الشافعي في الحاوي، في حكم من صلى خلف إمام لحن في الفاتحة، سواء أحال المعنى أم لم يحله: وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا صَلَاتَهُ، فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ. وَإِنْ أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ، كَانَتْ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، وَجَائِزَةٌ، إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ ... اهــ.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني