الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ترك معاقبة شارب الخمر بين الكفر وعدمه

السؤال

هل مجرد وجود مادة في القوانين الوضعية، تنص على أن شارب الخمر ليس عليه عقوبة، يُعتبر استحلالا للحرام، حتى لو لم يُذكر أن شرب الخمر حلال؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعدم معاقبة شارب الخمر، لا يعتبر بمجرده استحلالا لشرب الخمر! فإن الاستحلال هو اعتقاد أن الله أحلها! ولا يلزم من ترك العقوبة اعتقاد الحل، كما لا يخفى.

قال ابن قدامة في المغني: ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه؛ للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنا وأشباه ذلك، مما لا خلاف فيه: كفر. انتهى.

وانظر الفتاوى التالية أرقامها: 155077، 210631، 212137، 271699.
ولبيان عدم هذا التلازم، ننقل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول على شاتم الرسول) في رده على من فرق بين المستحل وغير المستحل، في كفر سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم.

حيث قال: هذا موضع لا بد من تحريره، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب: زلة منكرة، وهفوة عظيمة .. وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل، وإنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة، وذلك من وجوه ...
الوجه الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال، فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال، فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال، كفر، ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال، كفر، لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي، وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها، فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحلا، كفر ...
الوجه الرابع: أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل، فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل، فيجب أن لا يكفر! لا سيما إذا قال: "أنا اعتقد أن هذا حرام، وإنما أقول غيظا وسفها أو عبثا أو لعبا" كما قال المنافقون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب}، كما إذا قال: إنما قذفت هذا، أو كذبت عليه لعبا وعبثا. فإن قيل: لا يكونون كفارا، فهو خلاف نص القرآن. وإن قيل: يكونون كفارا، فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا، وقول القائل: أنا لا أصدقه في هذا، لا يستقيم؛ فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل، فإذا كان قد قال: "أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله" فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا؟ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، ولم يقل قد كذبتم في قولكم: إنما كنا نخوض ونلعب، فلم يكذبهم في هذا العذر، كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر، كما لو كانوا صادقين، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب .... اهـ.
وأما وجه تكفير المستحل، فهو تكذيبه للشرع، ورده لحكمه.

قال القاضي أبو يعلى الفراء في كتاب: (المعتمد في أصول الدين ص 271 - 272): من اعتقد تحليل ما حرم الله ورسوله بالنص الصريح، أو أجمع المسلمون على تحريمه؛ فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر، ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله أو المسلمون مع العلم بذلك، فهو كافر، كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. انتهى.
وقال الطحاوي في عقيدته: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله. اهـ.
فعلق عليه ابن باز فقال: إن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله، خارجاً عن دينه. اهـ.
فالاستحلال كفر لكونه تكذيبا وردا لحكم الله تعالى، وكذلك المعاصي إن اقترنت بما يزيل أصل الإيمان، كالعناد والاستكبار على حكم الله تعالى، أما مجرد الذنب فليس كذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول على شاتم الرسول): العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقا بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها، فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها بغير فعل. والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، أو لخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم، فهذا أشد كفرا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو اتباعا لغرض النفس، وحقيقة كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه! فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. اهـ.
والمقصود هو بيان أن ترك معاقبة شارب الخمر، ليس كفرا بمجرده، حتى يقترن بما يجعله كذلك، من الاستحلال، أو الإباء لحكم الله والاستكبار عنه وعدم التزامه، وهذا يُتَصور في التشريع العام، كالقوانين الوضعية الملزمة لعموم الناس، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 344836 وما أحيل عليه فيها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني