الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قصيدة البردة تشتمل على أمور مناقضة للتوحيد

السؤال

هل ما ورد في قصائد البردة ونهج البردة من مغالاة في مدح الرسول هو من باب البدعة أو الحرام؟ وهل يمكن حملها على طريق التشبيه في اللغة، كما في: "يا كاشف اللوح بل يا لامس القلم"؟ وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فهذه القصيدة المسماة بالبردة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وقع صاحبها في الغلو المذموم، والإطراء الذي نهى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه البخاري.
ومن ذلك قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي أخذا بيدي فضلا وإلا فقل يازلة القدم

واللياذة طلب الخير، كما أن الاستعاذة طلب دفع الشر، وكلاهما من العبادة التي لا تصرف إلا لله تعالى.
وقد دافع البعض عن الناظم بأن مراده الشفاعة يوم القيامة، وهذا لا يخرجه من المحذور، فإن الشفاعة حق يؤمن به أهل السنة، لكنها لا تكون إلا بعد إذن الله تعالى للشافع، ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255]. وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28].
وهذه هي الشفاعة التي أثبتها القرآن.
أما الشفاعة المنفية في قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 48]. وقوله: (فما لنا من شافعين) [الشعراء: 100]. وقوله: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر: 18].
فهي الشفاعة التي كان يعتقدها المشركون، وهي من جنس شفاعات الناس في الدنيا، فلا تحتاج إلى إذن المشفوع عنده ولا إلى رضاه عن المشفوع له.
ومن عرف الفرق بين الشفاعتين كان توجهه إلى الله تعالى، لا إلى الشافع، وكان دعاؤه: اللهم شفع فيّ نبيك صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: فالشفاعة حق ثابت لنبينا صلى الله عليه وسلم، لكن الله لم يشرع طلب ذلك منه في الدنيا، ولم يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فقد أتى بسبب يمنع حصول مطلوبه، لوقوعه فيما لا يرضاه الله من سؤال غيره والتعلق بسواه.
وقوله: فإن لي ذمة منه بتسميتي.. إلخ.
كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة والاتباع، لا بمجرد الاشتراك معه في الاسم.
وقوله: إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي.. إلخ.
فيه اعتماد على المخلوق ونسيان للخالق، ومنافاة للتوكل الذي هو من أعلى مقامات العبودية.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً، كما في الأحاديث الصحيحة ، ومن ذلك ما في الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل (وأنذرعشيرتك الأقربين) قال: " يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا . يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا . ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا ".
والحاصل أن المؤمن الموحد لا يسأل إلا الله، ولا يدعو غيره، ولا يطلب الشفاعة من الشافع في الدنيا، وإنما يسأل ربه أن يجعله أهلاً للشفاعة، وأن يأذن للشافع حتى يشفع له .
ومن الغلو المذموم قول الناظم.
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ومعلوم أن الإنسان لا يجود إلا بما يملك، فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله، بل لغيره، وليست منه، بل من سواه. وفي هذا مصادمة واضحة لقوله تعالى: (فلله الآخرة والأولى) [النجم: 5].
وقوله: (وإن لنا للآخرة والأولى) [الليل: 13].
فليست الدنيا ملكاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا الآخرة، ولا خلقنا لأجله كما يعتقد بعض الجهلة معتمدين في ذلك على حديث مكذوب موضوع.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. كالذي قبله، غلو وجهل مصادم للنصوص الصريحة المبينة أن مفاتيح الغيب عند الله تعالى، كقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59].
وقوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) [الأعراف: 188].
وهذا الخطاب لا يصلح إلا لله تعالى، فمن جوده الدنيا والآخرة، ومن علومه تعالى علم اللوح والقلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، ولم يرد في القرآن ولا في السنة أن الله أطلعه على ما في اللوح المحفوظ، وما جرى به القلم.
بل دل القرآن والسنة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم كثيراً من الأمور الحاضرة القريبة منه، كقوله تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) [التوبة: 101].
وأما وقائع السنة والسيرة فأكثر من أن تحصر، ومن ذلك ما جرى في غزوة أحد، والأكل من الشاة المسمومة، وموت أحد أصحابه من ذلك، وما جرى في قصة الإفك، وهمه صلى الله عليه وسلم بغزو بني المصطلق، ونزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..) [الحجرات: 6].
إلى غير ذلك مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما في اللوح المحفوظ، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه بالوحي.
ومن هذا يعلم أن قول القائل (يا كاشف اللوح بل يا لامس القلم) هو من الغلو أيضا، وهو افتراء وكذب، وقول في دين الله بغير علم.
فالواجب الحذر من الغلو والإطراء، ولزوم طريق الاقتصاد والتوسط. وفقنا الله جميعاً لذلك.
وللوقوف على نقد للبردة أكثر تفصيلاً، نشير عليك بالرجوع إلى ما كتبه الشيخ/ عبد البديع صقر بعنوان: (نقد البردة مع الرد والتصحيح).

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني