الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

آل محمدٍ لا يأكلون الصدقة

آل محمدٍ لا يأكلون الصدقة

آل محمدٍ لا يأكلون الصدقة

اختص الله سبحانه نبينا صلى الله عليه وسلم بخصائص ومقامات في الدنيا والآخرة ليست لسائر الناس، فمن خصائصه في الآخرة أنه صاحب الشفاعة، والوسيلة والفضيلة وهي أعلى درجة في الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة، وأنه أكثر الناس تبعاً يوم القيامة، ونهرالكوثر .. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم في الدنيا: عموم رسالته، وأوتي جوامع الكلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ..، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فُضِلتُ على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم.

ومما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم: أنه اختص بأحكام لا تتعداه إلى أمته، ككونه لا تحل له الصدقة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بطعام سأل عنه: أهديّة أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل: هديّة ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري. قال النووي: "فيه استعمال الورع والفحص عن أصل المأكل والمشرب".
وعن ربيعة بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ هذه الصّدقة، إنما هي أَوساخ الناس، وإنها لا تَحِلُّ لِمُحمَّدٍ ولا لآلِ محمَّد) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الشوكاني: "وإنما سميت أوساخاً لأنها تطهرة لأموال الناس ونفوسهم، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(التوبة: 103)".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ الحسن بن علي تمرةً منْ تمرِ الصدقة فجعلها في فيه (فمه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كَخٍ كَخٍ (كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات) إرْمِ بها، أما علمتَ أنا لا نأكل الصدقة) رواه مسلم، وفي رواية: (لا تحل لنا الصدقة). وفي لفظ البخاريّ: (إن آل محمد لا يأكلون الصدقة)، قال النووي: "وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار، وتمنع من تعاطيه، وهذا واجب على الولي .. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَمَا عَلِمْت أَنَّا لَا نأكل الصدقة) هذه اللفظة تُقَال فِي الشَّيْء الواضح التحريم ونحوه، وَإِنْ لَمْ يَكُن الْمُخَاطَب عَالِماً به, وتقديره: عَجَبٌ كَيْف خَفِيَ عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله؟".
وهذه الأحاديث عامّة لا فرق فيها بين صدقة الفرض والتّطوّع، فكلا النّوعين حُرِّم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال ابن حجر: "نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم الإمام الخطّابيّ". وأمّا دخول الآل في ذلك فإنّهم دخلوا تبعا لانتسابهم إليه وتشريفهم بذلك.

وقد ذكر بعض أهل العلم بعض الحِكم التي لأجلها حُرِّمت الصدقة على نبينا وآله عليهم الصلاة والسلام، منها:
شرف النبوة وارتفاع مقام النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، فحرم الله عز وجل عليه وعلى آله الصدقة حفظاً لمكانته من أن يرتفع عليه من هو أدنى منه بصدقة أو زكاة.
ومنها: أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(الشورى:23)، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}(صّ:86)، فلو أن الله عز وجل أحلَّ له ولآله الصدقات لأوشك المشركون أن يطعنوا فيه، فأغلق الله تعالى باب طعنهم من هذه الناحية بتحريم الصدقات عليه وعلى آله، وإلى هذا المعنى أشار ابن حجر والشوكاني.
ومنها: أن الزكاة والصدقة تختلف عن الهدية، فالزكاة تُخرج لتطهير مال الغني، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها}(التوبة: 103)، أما الهدية فتخرج لكسب ودّ الناس وحبهم. والزكاة فريضة على كل مسلم غني، قد يدفعها المسلم بغير طيب نفس ولكن بغرض أداء الواجب أو خوف السلطان، أما الهدية فهي ليست واجبة على العبد، فالأصل أنه يخرجها عن طيب نفس.
وقد اختلف علماء السلف، هل الأنبياء عليهم السلام تشارك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ أم اختص به دونهم؟ فذهب الحسن البصري إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك، وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك دونهم، قال ابن الملقن: "اختلف علماء السلف: هل شاركه في ذلك الأنبياء، أم اختص به دونهم؟ فقال بالأول: الحسن البصري، وبالثاني: سفيان بن عيينة".

الهدية والصدقة:

نبينا صلى الله عليه وسلم كان يهدي ويقبل الهدية القليل منها والكثير، وكان يقول: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أو كراع لَقَبِلْت) رواه البخاري، والكراع: ساق الغنم والبقر العاري من اللحم. قال ابن بطال: "حض منه لأمته على المهاداة والصلة، والتأليف والتَحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقِّر شيئاً مما يُهدى إليه أو يدعى إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدى، وإنما أشار بالكُراع إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية".
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن حجر: "والأحاديث في ذلك شهيرة". ويقول ابن عبد البر: "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الصدقة وكان يأكل الهدية، لما في الهدية من تآلف القلوب، والدعاء إلى المحبة والألفة، وجائز عليها الثواب، فترتفع المِنَّة، ولا يجوز ذلك في الصدقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها خيراً منها، فترتفع المنة".

هل يُتَّبَع النبي صلى الله عليه وسلم في حُرمة أخذ وأكل الصدقة؟ :

من لم يكن من آل النبي صلى الله عليه وسلم فله أن يقبل الصدقة، ورجح النووي استحباب قبولها، وليس الناس مُتَعَبَدِّين باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في عدم أخذ الصدقة، فلا يصحّ التأسّي به في ذلك، لأنه صلوات الله وسلامه عليه لَمّا امتنع عن أكل الصدقة قرّبها إلى أصحابه فأكلوا منها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بطعام سأل عنه: أهديّة أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل: هديّة ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري.
وقد أكَل النبي صلى الله عليه وسلم مما تُصُدِّق به على بريرة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبُرْمَة (قِدْر من حجارة) على النار، فَقُرِّب إليه خبز وأدم مِن أدم البيت، فقال: ألم أرَ البُرْمَة فيها لحم؟ قالوا: بلى، ولكِنْ ذلكَ لحْمٌ تُصُدِّقَ به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، قال: هو عليها صدقة ولنا هدية) رواه البخاري، وأما الترفّع عن أخذ الصدقات والتعفف عنه، فهذا مطلوب، إلاّ أن يكون الإنسان فقيراً محتاجاً . وقد استدل ابن تيمية على مشروعية وجواز عدم قبول الصدقة بامتناع حكيم بن حزام رضي الله عنه عن قبول حقه من بيت المال.. فلو أن شخصاً رفض قبول الصدقة خوفاً من المِنَّة، أو لأنه يرى أنه ليس من المستحقين لها فلا حرج عليه في عدم قبولها، لأن قبولها ليس واجباً في الأصل، قال النووي في "المجموع": "إذا عرض عليه مال من حلال على وجه يجوز أخذه ولم يكن منه مسألة ولا تطلع إليه جاز أخذه بلا كراهة، ولا يجب"، ومن ثم فعدم قبول الصدقة والزكاة ليس مما يجب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، إذ أن حرمة أخذ وأكل الصدقة من الأحكام التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم عن أمته.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة