الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أنماط التَّوكيد في لغة الحديث الشَّريف 1-3

أنماط التَّوكيد في لغة الحديث الشَّريف 1-3

أنماط التَّوكيد في لغة الحديث الشَّريف 1-3

(التّوكيد)، و(التّأكيد) لغتان، والأولى من وكَّد العهد يوكِّده توكيدًا، أي: أوثَقَه، والأخرى من أكّدَ يؤكّد تأكيدًا، وهي بمعنى الأولى، والواويّة أفصح، وبها جاء التّنزيل، قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (النّحل: 91).

أمّا في الاصطلاح فهو: أسلوب لُغويّ يؤتى به للتّحقيق وإزالة التّجوّز في الكلام، أي أنّ فائدته هي تمكين المعنى في نفس المخاطب وتقويته، وإزالة ما علق في نفسه من شكوك، وإماطة ما خالفه من شبهات.

وللتّوكيد في العربيّة أدوات مختلفة، وطرائق شتّى، إذ تشمل أجزاء الكلام كلّه؛ فهناك توكيد للحرف، وللاسم، وللفعل، وللجملة، وهناك توكيد يشمل أكثر من فقرة: فهو مثلًا لتوكيد الجملة الاسميّة، وتوكيد الجملة الفعليّة، وقد بحث النُّحاة في مصنّفاتهم التّوكيد وجعلوا له بابًا خاصًّا به، ولكنّهم قصروا مباحثهم على التّوكيد اللّفظيّ والمعنويّ ضمن باب التّوابع.

والأصل في الكلام أنْ يكون إخباريًّا خاليًا من التّوكيد؛ وهو الّذي يُسمّى (ابتدائيًّا)، ولكن قد يتردّد المخاطب في قبول الخبر، ولا يعرف مدى صحّته، فَيُسْتَحْسَنُ عند ذلك توكيده بموكّدٍ واحد، ويُسمّى عند ذلك بـ(الخبر الطّلبيّ)، وقد ينكر المخاطب الخبر، ويحكم بخلافه وعندها يجب توكيد الجملة بأكثر من مؤكّد على وَفْق ما يقتضيه الحال، ويُسمّى الخبر عندئذٍ (إنكاريًّا).

وحينما درس بعض اللُّغويّين الجُملة الفعليَّة على وَفْق أنماط التّوكيد الواردة في متن (صحيح البخاري) وجدوا أنّها وردتْ في سبعة وستين ومئتي موضعٍ، وقاموا بتقسيم أنماط التّوكيد على النَّحو التّالي:

النّمط الأوّل: التّوكيد بوساطة تَكرار الجملة الفعليّة نفسها:

وهذا التّوكيد اللّفظيّ، ويكون بإعادة اللّفظ الأوّل أو تقويته بمرادفه معنى؛ فمن الأوّل قولنا: (قَدِمَ محمدٌ قَدمَ محمدٌ)، ومن الآخر قولنا: (جَاءَ محمدٌ قَدِمَ محمدٌ)، ويحدث التّوكيد اللّفظيّ في الحروف، والأسماء، والأفعال زيادة على الجُمل، وبهذا فهو أوسع من التّوكيد المعنويّ، وقد تقترن الجُملة المؤكّدة بعاطف نحو: (لا تحْسَبَنَّ زيدًا بخيلًا ثمّ لا تحْسَبَنَّ زيدًا بخيلًا)، على أنّه يجب ترك العاطف عند إيهام التّعدّد نحو: (ضربتُ زيدًا ثمّ ضربتُ زيدًا)، وقد وردت الجُملة الفعليّة مكرّرة للتّأكيد في ستّة مواضع وعلى وَفْق ما يأتي:

أوَّلًا: الجُملة ذات الفعل الماضي التَّام المبني للمعلوم:

ومِن أمثلتها في الحديث النَّبويّ الشَّريف، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (حتَّى يُقالَ لهُ: أَصْبَحْتَ، أصْبَحْتَ)، (أَبَيْنَا أَبَيْنا)، (خَبَأْتُ لكَ هذا، خَبَأتُ لكَ هذا).

فهذه الجُمل الفعليَّة أفعالها (أصبح، أبى، خَبَأ)، وفاعلها (الضَّمير المتَّصل التَّاء)، والضَّمير المتّصل (نا)، والضَّمير المتَّصل (التَّاء)، أمَّا المفعول به فإنَّ فعل الجُملة الأولى لازم اكتفى بمرفوعه، أمّا فعل الجملة الثّانية فمتعدٍّ بنفسه، ولكن حُذفَ مفعوله اختصارًا، وتقديره -كما في سياق الحديث (أبينا الفتنة)، على حين كان فعل الجملة الثّالثة متعدٍّ إلى مفعولين الأوَّل منهما بنفسه، والثَّاني بوساطة حرف الجرّ، وقد تقدَّم المفعول الثَّاني على الأوَّل جوازًا.

وقد كرَّرت الجُملة مرَّتين من أجل الدَّلالة على التَّوكيد، ومن الملاحظ أنَّ كلَّ جُملة كُرّرت بما أُسندت إليه وهو الأصل في ذلك، وقد وردتْ هذه الجُملة في خمسة مواضع.

ثانيًا: الجُملة ذات الفعل المضارع التَّام المبني للمعلوم:

ومِن أمثلتها في الحديث النَّبويّ الشَّريف: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أحْسبُ فلانًا والله حَسِيُبهُ ولا أُزكّي على الله أحدًا، أَحْسَبُهُ كذا وكذا).

في المثال السَّابق وكّدت الجُملة الفعليَّة الَّتي فعلها (أحسبُ) وفاعله (أنا) وهو متعدٍّ بوساطة الهمزة إلى مفعولين الأوَّل منهما (فلانًا)، والثَّاني حذف اقتصارًا في الجُملة الأولى، وظهر في الجُملة الموكَّدة بـ(كذا وكذا) وهو كناية عن صفة معيَّنة.

ومن الملاحظ أنّه فُصِل بين الجُملة المؤكَّدة، والجُملة المؤكِّدة بكلام اعتراضي، ومن هنا فإنَّ فائدة التَّوكيد جاءت خشية نسيان الجُملة الأولى، فذكر التَّوكيد تطريةً لها وتجديدًا لعهدها، وقد وردتْ هذه الجُملة في موضع واحد فقط.

النَّمط الثَّاني: التَّوكيد بوساطة المصدر النَّائب عن المفعول المطلق:

والمراد بالمصدر هنا هو (المفعول المطلق) في نحو (ضَرَبَ محمدٌ زيدًا ضربًا)، ومن المعلوم أنَّ المفعول المطلق يأتي لتوكيد فعله، أو لبيان نوعه أو لبيان عدده، والَّذي يهمّنا النّوع الأوّل، وعليه فإنّ (ضربًا) في المثال السَّابق توكيد للفعل (ضرب)، وقد ذهب بعض النُّحاة إلى أنّه توكيد لمصدر الفعل السَّابق وليس للفعل، لأنَّ الفعل مكّون من حدث وزمان، والمصدر مكّون من حدث فقط، وعليه فإنَّ العرب عندما وكَّدت بالمصدر إنّما وكّدت وقوع الحدث وحده، فإذا أرادت توكيد الحدث والزّمان جاءت بلفظ الفعل نفسه؛ فنقول مثلًا: (ضَرَبَ ضَرَبَ محمدٌ زيدًا)، وهذا النَّوع من المفعول المطلق (المصدر) المؤكّد يُشترط فيه اجتماعه مع فعله -كما في المثال السَّابق-، وعليه فإنّ قولنا (ضربًا، زيدًا) ليس من التَّوكيد في شيء؛ لأنّه من المعلوم أنّه لا مانع من اجتماع التّوكيد والموكّد، لكنْ في هذا المثال يمتنع ذلك، وعليه فهو مصدر نائب عن فعله فحسب، وكذلك فإنّ هذا النّوع من المصدر وهو (الموكّد) لا يجوز أن يتقدَّم على عامله على الضّدّ من النَّوعين الآخرين.

وقد ورد هذا النَّوع في (موضع) واحد هو قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ اللهَ لا ينزعُ العِلْمَ، بَعْدَ أنْ أَعْطاهموهُ، انتزاعًا)، حيث وكَّدت الجُملة الّتي فعلها (ينزع) وفاعله (ضمير مستتر) عائد على لفظ الجلالة، ومفعوله (العلم)، بوساطة المصدر النَّائب عن المفعول المطلق الأصلي (انتزاعًا) وهو مصدر الفعل (انتزع) وجاز توكيد الفعل (ينزع) به لأنّه من مادته، ولم يرد في هذا المضمار غيره إذ إنَّ أغلب المصادر جاءت مبيّنة للنّوع أو العدد.

النَّمط الثّالث: التّوكيد بالقَصْر:

القصر في اللُّغة: الحَبْسُ، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (الرّحمن: 72)، أي محبوسة فيها، وفي الاصطلاح: تخصيص أمر بآخر بطريقٍ مخصوصٍ وحَصْرُهُ فيه، والقصرُ طريقة من طرائق التّوكيد في العربيَّة، يعمد إليها المتكلّم عندما يريد تثبيت غرضه في ذهن المخاطب وإزالة ما فيه من شكٍّ، بل إنّها أقوى طرائق التَّوكيد وأدلّها على تثبيت ما يراد تثبيته أو تقديره.

وللقصر طرفان هما: المقصور، وهو الشّيء المخصّص، والمقصور عليه، هو الشّيء المخصّص به، وله أيضًا طرق وشِعاب مختلفة، ومن أهمّها: القصر بـ(النَّفي، وإلا)، والقصر بـ(إنّما)، ويجري القصر في أجزاء الجملة الاسميّة جميعها، ويجري أيضًا في متعلّقات الجُمل الفعليّة، إلا أنّه يُستثنى في القصر بـ(النّفي، وإلا) الدّخول في شيئين:

الأوّل: المصدر المؤكّد: فلا يقع القصر بين المصدر المؤكّد وفعله، فلا تقول: (ما ضربتُ إلاّ ضربًا)، وأمّا قوله تعالى: {إن نَظنُّ إلا ظنًّا} (الجاثية: 32)، فإنّ سياق الآية يقتضي تقدير صفةٍ محذوفةٍ أي ظنًّا ضعيفًا، والآخر: المفعول معه: فإنّه لا يجيء القصر فيه، فلا تقول: (ما سِرْتُ إلا والحائط).

ولكلّ طريقة من طرائق القصر كيانها الخاص بها، وعليه فإنّ القصر بـ(إنّما) والقصر بـ(ما ، وإلا) ليسا بمنزلة واحدة، وهذا ما التفت إليه علماء البلاغة من قبل، ودليل ذلك أنّه: لو كان سواء لكان ينبغي أنّه يكون في (إنّما) من النّفي مثل ما يكون في (ما، إلا)… وذلك في قولك: (إنّما هو درهم لا دينار)، ولو قلت: (ما هو إلا درهم لا دينار) لم يكن شيئًا، وإذ قد بان بهذه الجملة أنّهم -أي النُّحاة- حين جعلوا (إنّما) في معنى (ما وإلا) لم يعنوا أنّ المعنى فيهما واحد على الإطلاق.

وسوف نأتي على بقية هذا الموضوع في مقالات لاحقة بإذن الله تعالى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة