الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ القول في كفارة الجماع في الحج ]

فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله - تعالى - : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) . واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه ، وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى .

واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة ، وبعد رمي الجمرة ، وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب ، فقال مالك : من وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه ، وعليه الهدي والقضاء ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة والثوري : عليه الهدي بدنة وحجه تام . وقد روي مثل هذا عن مالك .

وقال مالك : من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام ، وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور ، ويلزمه عندهم الهدي . وقالت طائفة : من وطئ قبل طواف الإفاضة فسد حجه ، وهو قول ابن عمر .

وسبب الخلاف : أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة ، وهو التحلل الأكبر - وهو الإفاضة - ، وتحللا أصغر . وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما ؟ ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد ، فإنهم اختلفوا فيه ، والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب ، وقيل عنه : إلا النساء والطيب والصيد ; لأن الظاهر من قوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) أنه التحلل الأكبر .

واتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا . وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف . وقال أبو حنيفة : لا يحل إلا بعد الحلاق ، وإن جامع قبله فسدت عمرته .

واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته : فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد [ ص: 305 ] الحج ، ويحتمل من يشترط في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترطه في الحج .

واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج ، فقال أبو حنيفة : لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج . وقال الشافعي : ما يوجب الحد يفسد الحج . وقال مالك : الإنزال نفسه يفسد الحج ، وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة . واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي .

واختلفوا فيمن وطئ مرارا ، فقال مالك : ليس عليه إلا هدي واحد . وقال أبو حنيفة : إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد ، وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي . وقال محمد بن الحسن : يجزيه هدي واحد ، وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول . وعن الشافعي الثلاثة الأقوال ، إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك .

واختلفوا فيمن وطئ ناسيا ، فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان . وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه .

واختلفوا هل على المرأة هدي ؟ فقال مالك : إن طاوعته فعليها هدي ، وإن أكرهها فعليه هديان . وقال الشافعي : ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان .

وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا - أعني : الرجل والمرأة - ، وقيل لا يفترقان ، والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين ، وبه قال أبو حنيفة . واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان ؟ فقال الشافعي : يفترقان من حيث أفسدا الحج ، وقال مالك : يفترقان من حيث أحرما ، إلا أن يكونا أحرما قبل الميقات .

فمن أخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة ، ومن لم يؤاخذهما به فجريا على الأصل ، وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع .

واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : هو شاة . وقال الشافعي : لا تجزئه إلا بدنة ، وإن لم يجد قومت البدنة دراهم ، وقومت الدراهم طعاما ، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما ، قال : والإطعام والهدي لا يجزي إلا بمكة أو بمنى ، والصوم حيث شاء . وقال مالك : كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ولا يدخل الإطعام فيه .

فمالك شبه الدم اللازم هاهنا بدم المتمتع ، والشافعي شبهه بالدم الواجب في الفدية ، والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى ، والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل الدم في موضعين ، ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد ، فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى ، فهذا ما يخص الفساد بالجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية