الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : في قول المنهاج في صلاة الجمعة من أدرك ركوع الثانية أدرك الجمعة فيصلي بعد سلام الإمام ، ومشى عليه الشارح المحقق ، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي بقوله : إن شرط إدراك الجمعة بركوع الثانية أن يستمر الإمام إلى السلام ، ووقع لبعضهم أنه قال : يجوز مفارقة الإمام إذا أدرك ركوع الثانية قبل أن يسلم الإمام إثر السجود الثاني ، وأفتى بذلك جماعة من الشافعية ، فعلام يعتمد المقلد للإمام الشافعي رضي الله عنه وعنا .

            الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، هذه المسألة من معضلات المسائل التي يجب التوقف فيها ، فإن المفهوم من كلام كثيرين اشتراط الاستمرار إلى السلام ، ومن كلام آخرين خلافه ، وها أنا أبين ذلك واضحا مفصلا فأقول : المفهوم من كلام المشايخ الثلاثة الرافعي والنووي وابن الرفعة اشتراط الاستمرار إلى السلام حيث عبروا في عدة مواضع ، الرافعي في شرحيه ، والنووي في شرح المهذب والمنهاج ، وابن الرفعة في الكفاية ، بقولهم صلى بعد سلام الإمام ركعة أضاف بعد سلام الإمام فإذا سلم [ ص: 72 ] الإمام قام وأتى بركعة ، وتكرر ذلك منهم في مواضع عديدة ، وهذا وإن كان محتملا لذكر بعد صور المسألة لا للتقييد لكن يدفعه عدم ذكر الشق الآخر وهو ما لو فارق قبل السلام ما حكمه ؟ فإنه لو كان حكمه الإدراك لنبهوا عليه ليعرفوا أن قولهم بعد سلام الإمام ونحوه ليس للتقييد ، وكذا قال ابن الرفعة في مسألة المزحوم إذا راعى ترتيب نفسه عالما بطلت صلاته ، ثم إن أدرك الإمام في ركوع الثانية وجب عليه أن يحرم معه ، وتدرك الجمعة بهذه الركعة ، فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى .

            وقال في مسألة المسبوق : المراد بإدراك الركعة أن يحرم المأموم ويركع مع الإمام والإمام راكع فيجتمعان في جزء منه ويتابع الإمام إلى أن يتم ، وقال الرافعي : المراد بإدراك الركوع أن يدركه فيه ويتابعه فيما بعده من الأركان .

            فهذه العبارات كلها ظاهرة في اعتبار الاستمرار إلى السلام ، وأما مسألة المفارقة التي ذكرها الإسنوي وجوزها قبل السلام فلم يصرح بها أحد من المشايخ الثلاثة ، وإنما ذكروا مسألة المفارقة مريدين بها بعد الركعة الأولى بقرينة أنهما لم يذكراها في مسألة المسبوق ، وإنما ذكرها الرافعي والنووي في مسألة الاستخلاف ، وابن الرفعة في مسألة الزحمة ، وكل من المسألتين خاص بإدراك الركعة الأولى ، هذا وقد صرح بالمسألة واشترط الاستمرار إلى السلام الشيخ تقي الدين السبكي ، والكمال الدميري في شرحيهما على المنهاج ، وعبارة السبكي والدميري هذا إذا كملها مع الإمام ، أما لو خرج منها قبل السلام فلا ، ويرشد إليه قوله : فيصلي بعد سلام الإمام ركعة - هذه عبارته .

            وقول الشيخ جلال الدين المحلي في شرحه : واستمر معه إلى أن سلم يحتمل التقييد والتصوير لأجل صورة الكتاب ، والأول أوجه ، وإلا لبين حكم القسم الآخر وألحقه بالأول كما جرت به عادته وعادة الشراح قبله ، وإلا لكان زيادة إبهام استمرارا على ما في المتن من الإيهام ، وإن نظرت إلى الاستدلال وجدته يؤيد الاشتراط ، وذلك لأن الأصل في الجمعة أن لا يصلى شيء منها إلا مع الإمام ، خرج صورة من أدرك ركعة بالحديث فوجب الاقتصار عليه بشرط حصول مسمى الركعة ، والتشهد والسلام داخلان في مسمى الركعة ، وذلك من وجوه :

            أحدها : أن النصوص والإجماع على أن الجمعة والصبح والعيد ونحوها ركعتان ، والظهر والعصر والعشاء أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ، والقول بأن آخر الركعات الفراغ من السجدة الثانية ، وأن التشهد والسلام قدر زائد عليها يلزم عليه أحد أمرين : إما إخراج ذلك عن مسمى الصلاة ، وهو شيء لم يقله أحد في التشهد ، وإن قال به بعض العلماء في السلام ، وإما دعوى أن الصلاة ركعتان وشيء أو أربع وشيء أو ثلاث وشيء وهو أمر ينبو عنه السمع ويأباه حملة الشرع .

            الثاني : أن الحديث [ ص: 73 ] واتفاق المذهب مصرح بأن الوتر ركعة وهي مشتملة على تشهد وسلام ، فدعوى أنهما خارجان عن مسمى الركعة خلاف الأصل والظاهر ، إذ الأصل والظاهر أن الاسم إذا أطلق على شيء يكون منصبا على جميع أجزائه ، ولا يخرج بعضها عن إطلاق الاسم عليه إلا بدليل ينص عليه .

            الثالث : أن أكثر ما يقال في إخراجهما عن مسمى الركعة القياس على الركعة الأولى وهو بعيد ؛ لأن السجدة الثانية في الركعة الأولى يعقبها الشروع في ركعة أخرى فوجب كونها آخر الركعة ، والتشهد الأول يعقبه ركعة أو ركعتان فصح جعله فاصلا بين ما سبق وما سيأتي ، وأما الركعة الأخيرة فلا يعقبها شروع في ركعة أخرى فوجب أن يكون تشهدها جزءا منها داخلا في مسماه ، ولم يصلح أن يكون فاصلا إذ لا شيء يفصله منها .

            الرابع : ومما يؤيد ذلك أنه لا بدع أن يزيد بعض الركعات على بعض بأركان وسنن ، فكما أن الأولى زادت من الأركان بالنية والتكبيرة ، ومن السنن بدعاء الاستفتاح وبالتعوذ على رأي مشى عليه صاحب التنبيه ، فكذلك زادت الثانية بالتشهد والسلام وبالقنوت في بعض الصلوات .

            الخامس : ومما يؤيد ذلك اختلاف الأصحاب في جلسة الاستراحة هل هي من الركعة الأولى أو من الثانية أو فاصلة بين الركعتين ؟ على أوجه حكاها ابن الرفعة في الكفاية ، وبنوا على ذلك ما لو خرج الوقت فيها ، فإن قلنا : إنها من الأولى فالصلاة قضاء ، لأنه لم يدرك ركعة من الوقت ، أو من الثانية أو فاصلة فأداء ، فانظر كيف لم يجزموا بأن آخر الأولى السجدة الثانية ، والتشهد الأخير نظير جلسة الاستراحة ، بل يجب القطع بأنه من الركعة التي قبله ، ولا يحسن فيه خلاف جلسة الاستراحة ؛ لأن جلسة الاستراحة تعقبها ركعة فيصح أن يجعل جزءا منها أو فاصلا بينها وبين ما قبلها ، ولا ركعة بعد التشهد الأخير فلا يصح جعله من غير الركعة التي هو فيها ، إذ لا شيء بعده تجعل منه أو فاصلا بينه وبين ما قبله ، وبهذا يحصل الفرق بينه وبين التشهد الأول .

            السادس : علم مما قررناه أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ) أي أداء لا يكتفي فيه بالفراغ من السجدة الثانية ، بل لا بد من الفراغ من الجلسة بعدها إن جلسها على الأول وهو مرجوح ، فكذا حديث من أدرك ركعة من الجمعة لا يكتفي فيه بالفراغ من السجدة الثانية ، بل لا بد من الفراغ من الجلوس بعدها لما قطعنا به من كونه من جملة الركعة .

            السابع : قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى ) ظاهر في أن التشهد والسلام داخل في مسمى الركعة ؛ وذلك لأن قوله : أخرى ، صفة لموصوف مقدر ، أي [ ص: 74 ] ركعة أخرى ، والركعة التي تصلى مشتملة على تشهد وسلام وقد سماها ركعة فوجب دخولهما في مسمى الركعة ، فإن قيل : يقدر في الحديث فليصل إليها ركعة ويضم إليها التشهد والسلام ، قلنا : هذا تقرير ما لا دليل عليه ولا حاجة إليه ، والتقدير لا يصار إليه إلا عند الحاجة ولا حاجة .

            الثامن : لفظ الحديث والأصحاب في صلاة الخوف أن الفرقة الثانية يصلون مع الإمام ركعة دليل أن التشهد والسلام داخلان في مسمى الركعة ، فإنها تتشهد معه وتسلم ، وكذا قولهم : فإن صلى مغربا فبفرقة ركعتين وبالثانية ركعة فإن الأولى تتشهد معه والثانية كذلك وتسلم معه .

            والتاسع : قول الفقهاء في صلاة النفل : فإن أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في ركعتين ، وفي كل ركعة صريح في أن التشهد داخل في مسمى الركعة حيث جعلوا الركعة ظرفا للتشهد فيكون منها ، ولو كان زائدا عليها لم يصح الظرف ؛ لأنه يكون بعدها لا فيها ، فقولهم : تشهد في كل ركعة كقولهم تجب الفاتحة في كل ركعة ، وكقولهم في صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان ، فإن ذلك داخل في مسمى الركعة قطعا .

            العاشر : قوله صلى الله عليه وسلم في صلاة التسبيح إنها أربع ركعات في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة ثم فصلها ، خمس عشرة في القيام ، وعشر في الركوع ، إلى أن قال : وعشر في جلسة الاستراحة ، إلى أن قال : وعشر في التشهد صريح في أن جلسة الاستراحة والتشهد بعض من الركعة وداخلان في مسمى الركعة ، وإلا لم يصح أن في كل ركعة خمسة وسبعين ؛ لأنه لو كانا خارجين عن مسمى الركعة كان في كل ركعة خمس وستون والباقي مزيد على الركعة ، ولفظ الحديث : ( يصلي أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ، فإذا انقضت القراءة فقل : الله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله ، خمس عشرة مرة قبل أن تركع ، ثم اركع فقلها عشرا ، ثم ارفع رأسك فقلها عشرا ، ثم اسجد فقلها عشرا ، ثم ارفع رأسك فقلها عشرا ، ثم اسجد فقلها عشرا ، ثم اجلس للاستراحة فقلها عشرا قبل أن تقوم ، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة وهي ثلاثمائة في أربع ركعات ) - أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن خزيمة في صحيحيهما ، فإن قيل : الأرجح أن جلسة الاستراحة فاصلة لا من الأولى ولا من الثانية . قلت : الجواب عن ذلك أن هذه الجلسة في صلاة التسبيح ليست كجلسة الاستراحة بل جلسة مزيدة في هذه الصلاة كالركوع في صلاة الكسوف - ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن حجر في أماليه ، ولهذا طولت ، فدل على أنها هنا من الركعة الأولى ، فكذلك التشهد الأخير من الركعة الرابعة ، ولا تتم خمسة وسبعون إلا بما يقال فيه ، فإن قيل : فما الذي أوجب ذلك التوقف مع ما ذكرت من وجوه الاستدلال ؟ قلت : مسألة رأيتها [ ص: 75 ] في تهذيب البغوي ، فإنه بعد أن قرر في مسائل الاستخلاف أن الخليفة المقتدي في الثانية يتم ظهرا لا جمعة ؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة ، قال ما نصه : ولو أدرك المسبوق في الركوع من الركعة الثانية فركع وسجد مع الإمام فلما قعد للتشهد أحدث الإمام وتقدم المسبوق له أن يتم الجمعة ؛ لأنه صلى مع الإمام ركعة - هذا نصه بحروفه ، فإن صحت هذه المسألة اتجه ما قيل في المفارقة ، إلا أني لم أر من ذكر هذه المسألة التي ذكرها البغوي ، ولم أر أحدا صرح بموافقته فيها ولا بمخالفته ، وقد ذكر هو ما يشعر بأنه قالها تخريجا من عنده ، ولم ينقلها نقل المذهب ، ولم يتعرض لها أحد من المتأخرين ، لا الرافعي في شرحيه ، ولا النووي في شرح المهذب على تتبعه ، ولا ابن الرفعة في الكفاية مع حرصه على تتبع ما زاد على الشيخين ، ولا السبكي ، ولا أحد ممن تكلم على الروضة كصاحب المهمات والخادم ، وهي محل نظر ، وهي التي أوجبت لي التوقف في مسألة المفارقة ، والتحقيق أن الركعة اسم لجميع أركان الواحدة من أعداد الصلاة من القيام إلى مثله أو إلى التحلل ، وإخراج التشهد والسلام عن مسمى الركعة بعيد جدا ، والأحوط عدم تجويز المفارقة قبل السلام ليتحقق مسمى الركعة المعتبرة في إدراك الجمعة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية