الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة ، وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة . احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا : إن قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) جملة مركبة من شرط ، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض ، والجزاء هو جواز القصر ، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلا أو قصيرا ، أقصى ما في الباب أن يقال : فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة ، ومن دار إلى دار ، إلا أنا نقول :

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض ، فقد زال الإشكال ، وإن سمي بذلك فنقول : أجمع المسلمون على أنه غير معتبر ، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب أن يبقى النص معتبرا في السفر ، سواء كان قليلا أو كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : ( وإذا ضربتم في الأرض ) يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة ، فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما ؛ لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد ، ومن المسجد إلى السوق ، وإذا كان حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم ، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفرا ، ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد ، [ ص: 17 ] فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر ، أما الفقهاء فقالوا : أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر ، قالوا : والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات :

                                                                                                                                                                                                                                            فالرواية الأولى : ما روي عن عمر أنه قال : يقصر في يوم تام ، وبه قال الزهري والأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : قال ابن عباس : إذا زاد على يوم وليلة قصر .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالثة : قال أنس بن مالك : المعتبر خمس فراسخ .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابعة : قال الحسن : مسيرة ليلتين .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامسة : قال الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير : من الكوفة إلى المداين ، وهي مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول أبي حنيفة . وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر ، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                                                                                                                            السادسة : قال مالك والشافعي : أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم ، وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء : فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر .

                                                                                                                                                                                                                                            قال أهل الظاهر : اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل ، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة ، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب ، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر ، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية ، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط ؛ فلهذا سكتوا عن هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام ، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرا ، وإذا لم يكن مسافرا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر ، وأما أصحاب الشافعي -رضي الله عنه- فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ، من مكة إلى عسفان . قال أهل الظاهر : الكلام عليه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو عندنا غير جائز لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم ، والقرآن مقطوع المتن ، والخبر مظنون المتن ، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر ، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه " ، دل هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود ، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردودا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في دفع هذه الأخبار : وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة ، إنما قلنا : إن الحاجة إليها عامة ؛ لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو ، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر ، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلا متواترا ، لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن ، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة ، وإذا كان الأمر كذلك [ ص: 18 ] فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة ، وإذا تعارضت تساقطت ، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن ، هذا تمام الكلام في هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                            والذي عندي في هذا الباب أن يقال : إن كلمة " إذا" وكلمة "إن" لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقبا للجزاء ، فأما كونه مستعقبا لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم ، بدليل أنه إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة وقع الطلاق ، وإذا دخلت الدار ثانيا لا يقع ، وهذا يدل على أن كلمة "إذا" ، وكلمة "إن" لا يفيدان في العموم البتة ، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية ، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص ، وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلا ، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية ، لو قلنا : إن كلمة "إذا" للعموم ، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقد سقط الاستدلال ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن ، فكانت مقبولة صحيحة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية