الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب [ للرجال ] زيارة القبور ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال { زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ; ثم قال : إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ; فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت } والمستحب أن يقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويدعو لهم لما [ ص: 284 ] روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد } " ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لعن الله زوارات القبور } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة الأول رواه مسلم في صحيحه ، ولم يقع هذا الحديث في رواية عبد الغافر الفارسي لصحيح مسلم ، وهو موجود لغيره من الرواة عن الجلودي ، وأخرجه البيهقي في السنن وعزاه إلى صحيح مسلم . وأما حديث عائشة فرواه مسلم في صحيحه . وأما حديث أبي هريرة الأخير فرواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وكذلك رواه غيره ، ورواه أبو داود في سننه من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، والبقيع بالباء الموحدة ; والغرقد شجر معروف قال الهروي : هو من العضاه وهي كل شجرة له شوك . وقال غيره هو العوسج قالوا : وسمي بقيع الغرقد لشجرات غرقد كانت به قديما ، وبقيع الغرقد هو مدفن أهل المدينة . وقوله : " السلام عليكم دار " . فدار ، منصوب قال صاحب المطالع : هو منصوب على الاختصاص أو على النداء المضاف ، والأول أفصح .

                                      وقال : ويصح الجر على البدل من الكاف والميم في عليكم ، والمراد بالدار على هذا الوجه الأخير الجماعة أو أهل الدار ، وعلى الأول مثله أو المنزل ، وقوله صلى الله عليه وسلم " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فيه أقوال .

                                      ( أحدها ) أنه ليس على وجه الاستثناء الذي يدخل الكلام لشك وارتياب ، بل على عادة المتكلم لتحسين الكلام . حكاه الخطابي رحمه الله .

                                      ( الثاني ) هو استثناء على بابه . وهو راجع إلى التخوف في هذا المكان ، والصحيح أنه للتبرك وامتثال قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وقيل فيه أقوال أخر تركتها لضعفها ، ومن أضعفها قول من قال : { إنه صلى الله عليه وسلم دخل المقبرة ومعه مؤمنون حقيقة ، وآخرون يظن بهم النفاق } وكان الاستثناء منصرفا إليهم ، وهذا غلط لأن الحديث في صحيح مسلم وغيره { أنه صلى الله عليه وسلم خرج في آخر الليل إلى البقيع وحده ورجع في وقته ، ولم يكن معه أحد إلا عائشة رضي الله عنها كانت تنظره من بعيد ، ولا يعلم أنها تنظره } ، فهذا تصريح بإبطال [ ص: 285 ] هذا القول ، وإن كان قد حكاه الخطابي وغيره ، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به ، وقيل إن الاستثناء راجع إلى استصحاب الإيمان ، وهذا غلط فاحش ، وكيف يصح هذا وهو صلى الله عليه وسلم يقطع بدوام إيمانه ؟ ، ويستحيل بالدلالة العقلية المقررة وقوع الكفر ، فهذا القول وإن حكاه الخطابي وغيره باطل نبهنا عليه لئلا يغتر به ، وكذا أقوال أخر قيلت ، هي فاسدة ظاهرة الخطأ لا حاجة إلى ارتكابها ولا ضرورة بحمد الله في الكلام إلى حمله على تأويل بعيد ، بل الصحيح منه ما قدمته والله أعلم .

                                      ( أما الأحكام ) فاتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور ، وهو قول العلماء كافة ; نقل العبدري فيه إجماع المسلمين ، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة ، وكانت زيارتها منهيا عنها أولا ثم نسخ ، ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } وزاد أحمد بن حنبل والنسائي في روايتهما : { فزوروها ولا تقولوا هجرا } والهجر الكلام الباطل ، وكان النهي أولا لقرب عهدهم من الجاهلية ، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل فلما استقرت قواعد الإسلام وتمهدت أحكامه واستشهرت معالمه أبيح لهم الزيارة وأحاط صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولا تقولوا هجرا " . قال أصحابنا رحمهم الله : ويستحب لزائر أن يدنو من قبر المزور بقدر ما كان يدنو من صاحبه لو كان حيا وزاره .



                                      وأما النساء فقال المصنف وصاحب البيان : لا تجوز لهن الزيارة وهو ظاهر هذا الحديث ولكنه شاذ في المذهب ، والذي قطع به الجمهور أنها مكروهة لهن كراهة تنزيه ، وذكر الروياني في البحر وجهين ( أحدهما ) يكره كما قاله الجمهور ( والثاني ) لا يكره قال : وهو الأصح إذا أمن عندي الافتتان . وقال صاحب المستظهري : وعندي إن كانت زيارتهن لتجديد الحزن والتعديد والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن حرم ، قال : وعليه يحمل الحديث { لعن الله زوارات القبور } وإن كانت زيارتهن لاعتبار من غير تعديد ولا نياحة كره ، إلا أن تكون عجوزا لا تشتهى ، فلا يكره [ ص: 286 ] كحضور الجماعة في المساجد ، وهذا الذي قاله حسن ، ومع هذا فالاحتياط للعجوز ترك الزيارة لظاهر الحديث ، واختلف العلماء رحمهم الله في دخول النساء في قوله صلى الله عليه وسلم { : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } . والمختار عند أصحابنا أنهن لا يدخلن في ضمن الرجال ، ومما يدل أن زيارتهن ليست حراما حديث أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتق الله واصبري } رواه البخاري ومسلم ، وموضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم لم ينهها عن الزيارة . وعن عائشة رضي الله عنها قالت { كيف أقول يا رسول الله ؟ - يعني إذا زرت القبور - قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون } رواه مسلم .



                                      ، قال أصحابنا رحمهم الله : ويستحب للزائر أن يسلم على المقابر ، ويدعو لمن يزوره ، ولجميع أهل المقبرة ، والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما ثبت في الحديث ، ويستحب أن يقرأ من القرآن ما تيسر ، ويدعو لهم عقبها ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب . قال الحافظ أبو موسى الأصفهاني رحمه الله ، في كتابه آداب زيارة القبور : الزائر بالخيار إن شاء زاره قائما ، وإن شاء قعد كما يزور الرجل أخاه في الحياة ، فربما جلس عنده ، وربما زاره قائما أو مارا ( قال ) وروى القيام عند القبر من حديث أبي أمامة والحكم بن الحارث وابن عمر وأنس ، وعن جماعة من السلف رضي الله عنهم ، قال أبو موسى : وقال الإمام أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني : وكان من الفقهاء المحققين في كتابه في الجنائز : ولا يستلم القبر بيده ، ولا يقبله قال : وعلى هذا مضت السنة .

                                      قال أبو الحسن : واستلام القبور وتقبيلها الذي يفعله العوام الآن من المبتدعات المنكرة شرعا ، ينبغي تجنب فعله وينهى فاعله ، قال فمن قصد السلام على ميت سلم عليه من قبل وجهه ، وإذا أراد الدعاء تحول عن موضعه واستقبل القبلة ، قال أبو موسى : وقال الفقهاء المتبحرون الخراسانيون : المستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة مستقبلا وجه الميت ، يسلم ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا يمسه ، فإن ذلك عادة [ ص: 287 ] النصارى ( قال ) : وما ذكروه صحيح لأنه قد صح النهي عن تعظيم القبور ، ولأنه إذا لم يستحب استلام الركنين الشاميين من أركان الكعبة لكونه لم يسن ، مع استحباب استلام الركنين الآخرين ، فلأن لا يستحب مس القبور أولى ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية