الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه [ ص: 409 ] عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما روى مسروق عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى، فبكينا لبكائه ، ثم قام ، فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فدعاه ثم دعانا فقال: (ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك ، قال: (إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل الله علي: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى الآية. فأخذني ما يأخذ الولد للوالد ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة). والثاني: أنها نزلت في أبي طالب ، روى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال صلى الله عليه وسلم: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء كلمهم به أن قال: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك (فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية. والثالث: أنها نزلت فيما رواه أبو الخليل عن علي بن أبي طالب رضي الله [ ص: 410 ] عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أولم يستغفر إبراهيم لأبويه؟ فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين قوله عز وجل: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية. عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه مع شركه لسالف موعده ورجاء إيمانه. وفي موعده الذي كان يستغفر له من أجله قولان: أحدهما: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن. والثاني: أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له لما كان يرجوه أنه يؤمن. فلما تبين له أنه عدو لله وذلك بموته على شركه وإياسه من إيمانه تبرأ منه أي من أفعاله ومن استغفاره له ، فلم يستغفر له بعد موته. إن إبراهيم لأواه حليم فيه عشرة تأويلات: أحدها: أن الأواه: الدعاء ، أي الذي يكثر الدعاء ، قاله ابن مسعود.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه الرحيم ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه الموقن ، قاله عكرمة وعطاء .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه المؤمن ، بلغة الحبشة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس: أنه المسبح ، قاله سعيد بن المسيب.

                                                                                                                                                                                                                                        السادس: أنه الذي يكثر تلاوة القرآن ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                        السابع: أنه المتأوه ، قاله أبو ذر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثامن: أنه الفقيه ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        التاسع: أنه المتضرع الخاشع ، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 411 ] العاشر: أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها ، قاله أبو أيوب. وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع ، ومنه قول المثقب العبدي:


                                                                                                                                                                                                                                        إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية