الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل قال أبو بكر : وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أي شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك ؛ لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار . وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى البحرين ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : كم أصلي ؟ فقال : ركعتين . وعن ابن عباس وابن عمر : " أنهما خرجا إلى الطائف فقصرا الصلاة " .

وروي عن عبد الله بن مسعود قال : " لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد " . وعن عطاء قال : " لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله " فإن قيل : لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حج أو جهاد . قيل له : لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد ؛ وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد ، وقول عمر صلاة السفر ركعتان على [ ص: 235 ] لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار ، وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل " في حج " دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين . ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا .

ومن يتأول قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ، ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما ، وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات .

والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعي . وقال مالك : " إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر ، وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر " . وقال الشافعي : " إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر " . قال أبو بكر : قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة .

وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة ؟ فقال أصحابنا : " يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم " وهو قول مالك والشافعي . وقال الأوزاعي : " إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى حيث أكراها ، فإذا انتهى أتم الصلاة " .

وقال الحسن بن صالح : " إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم " . قال أبو بكر : كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر ، كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر .

وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم . وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها ، وهو قول الثوري والحسن بن صالح . وقال مالك : " ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل " وهو قول الليث ، وقال الأوزاعي : " يوم تام " . وقال الشافعي : " ستة وأربعون ميلا بالهاشمي " . وروي عن ابن عمر : " ثلاثة أيام " ، وروي عن ابن عباس : " يوم وليلة " .

واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة ، فقال أصحابنا والثوري : " إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم ، وإن كان أقل قصر " . وقال مالك والليث والشافعي : " إذا نوى إقامة أربع أتم " . وقال الأوزاعي : " إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر " . وقال الحسن بن صالح : " إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما لم [ ص: 236 ] يقم به عشرا ، وإن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة " . قال أبو بكر : وروي عن ابن عباس وجابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فدل على سقوط اعتبار الأربع .

وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا : " إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها " ؛ ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته .

فإن قيل : روى عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال : " من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة " .

قيل له : روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال : " إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما أو ليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر " ، وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شيء ، ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر ؛ وأيضا مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق ، وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه ، فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها ؛ وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية