الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن كان خائفا يصلي إلى أي جهة قدر ) [ ص: 271 ] لتحقق العذر فأشبه حالة الاشتباه ( فإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها اجتهد وصلى ) { لأن الصحابة رضوان الله عليهم تحروا وصلوا ولم ينكر عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام } ، ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه ، [ ص: 272 ] والاستخبار فوق التحري ( فإن علم أنه أخطأ بعد ما صلى لا يعيدها ) وقال الشافعي رحمه الله : يعيدها إذا استدبر لتيقنه بالخطأ ، ونحن نقول : ليس في وسعه التوجه إلى جهة التحري [ ص: 273 ] والتكليف مقيد بالوسع ( وإن علم ذلك في الصلاة استدار إلى القبلة وبنى عليه ) لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيئتهم في الصلاة ، واستحسنه النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقض المؤدى قبله . قال ( ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم ) لوجود التوجه إلى جهة التحري ، وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة ( ومن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته ) لأنه اعتقد أن إمامه على الخطإ ( وكذا لو كان متقدما عليه ) لتركه فرض المقام

التالي السابق


( قوله ومن كان خائفا ) من سبع أو عدو أو كان في البحر على خشبة يخاف الغرق إن توجه ، أو مريضا لا يقدر على التوجه وليس بحضرته من يوجهه يصلي إلى أي جهة قدر ، ولو كان على الدابة بخلاف النزول للطين والردغة يستقبل .

قال في الظهيرية . وعندي هذا إذا كانت واقفة ، فإن كانت سائرة يصلي حيث شاء ، ولقائل أن يفصل بين كونه لو وقفها للصلاة خاف الانقطاع عن الرفقة أو لا يخاف ، فلا يجوز في الثاني إلا أن يوقفها ويستقبل كما عن أبي يوسف في التيمم إن كان بحيث لو مضى إلى الماء تذهب القافلة وينقطع جاز وإلا [ ص: 271 ] ذهب إلى الماء واستحسنوها ( قوله وليس بحضرته إلخ ) لأنه لو كان بحضرته من أهل المكان من يسأله لا يجوز التحري ، وكذا لا يجوز مع المحاريب ، فلو لم يكن من أهل المكان ولا عالما بالقبلة أو كان المسجد لا محراب له أو سألهم فلم يخبروه تحرى .

وفي قوله ليس بحضرته إشارة إلى أنه ليس عليه طلب من يسأله عند الاشتباه كذا ، والأوجه أنه إذا علم أن المسجد قوما من أهله مقيمين غير أنهم ليسوا حاضرين فيه وقت دخوله وهم حوله في القرية وجب طلبهم ليسألهم قبل التحري ، لأن التحري معلق بالعجز عن تعرف القبلة بغيره ، علل محمد رحمه الله بما قلنا ، قال : رجل دخل المسجد الذي لا محراب له وقبلته مشكلة وفيه قوم من أهله فتحرى القبلة وصلى ثم علم أنه أخطأ فعليه أن يعيد لأنه كان يقدر أن يسأل عن القبلة فيعلمها ويصلي بغير تحر ، وإنما يجوز التحري إذا عجز عن تعلمه بذلك ( قوله اجتهد ) حكم المسألة فلو صلى من اشتبهت عليه القبلة بلا تحر فعليه الإعادة إلا إن علم بعد الفراغ أنه أصاب ، لأن ما افترض لغيره يشترط حصوله لا غير كالسعي ، وإن علم في الصلاة أنه أصاب يستقبل ، وعند أبي يوسف يبني لما ذكرنا ، ولأنه لو استقبل استقبل بهذه الجهة فلا فائدة .

قلنا : حالته قويت بالعلم ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز فصار كالأمي إذا تعلم سورة ، والمومئ إذا قدر على الأركان فيها تفسد وبعدها تصح ، أما لو تحرى وصلى إلى غير جهة التحري لا يجزئه وإن أصاب مطلقا ، خلافا لأبي يوسف رحمه الله وهي مشكلة على قولهما لأن تعليلهما في هذه وهو أن القبلة في حقه جهة التحري وقد تركها يقتضي الفساد مطلقا في صورة ترك التحري ، لأن ترك جهة التحري يصدق مع ترك التحري وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرد حصوله كالسعي يقتضي الصحة في هذه ، وعلى هذا لو صلى في ثوب وعنده أنه نجس ثم ظهر أنه طاهر ، أو صلى وعنده أنه محدث فظهر أنه متوضئ ، أو صلى الفرض وعنده أن الوقت لم يدخل فظهر أنه كان قد دخل لا يجزئه لأنه لما حكم بفساد صلاته بناء على دليل شرعي وهو تحريه فلا ينقلب جائزا إذا ظهر خلافه ، وهذا التعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التحري إذا ظهر صوابه .

وبه يندفع الإشكال الذي أورده لأن الدليل الشرعي على الفساد هو التحري أو اعتقاد الفساد عن التحري ، فإذا حكم بالفساد دليل شرعي لزم وذلك منتف في صورة ترك التحري فكان ثبوت الفساد فيها قبل ظهور الصواب إنما هو لمجرد اعتقاده الفساد مؤاخذة باعتقاده الذي هو ليس [ ص: 272 ] بدليل إذ لم يكن عن تحر ، والله أعلم . وفي فتاوى العتابي : تحرى فلم يقع تحريه على شيء قيل يؤخر ، وقيل يصلي إلى أربع جهات ، وقيل يخير ، هذا كله إذا اشتبه ، فإن صلى في الصحراء إلى جهة من غير شك ولا تحر ، إن تبين أنه أصاب أو كان أكبر رأيه أو لم يظهر من حاله شيء حتى ذهب عن الموضع فصلاته جائزة ، وإن تبين أنه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة ( قوله والاستخبار فوق التحري ) فيترك به التحري ، فإن لم يخبره المستخبر حين سأله فصلى بالتحري ثم أخبره لا يعيد لو كان مخطئا ، وبناء على هذا ذكر في التجنيس : تحرى فأخطأ فدخل في الصلاة وهو لا يعلم ثم علم وحول وجهه إلى القبلة ثم دخل رجل في صلاته وقد علم حالته الأولى لا تجوز صلاة الداخل لعلمه أن الإمام كان على الخطإ في أول الصلاة انتهى .

ولو كان شروع الكل بالتحري وفيهم مسبوق ولاحق فلما فرغ الإمام قاما إلى القضاء فظهر لهما خلاف ما كانوا رأوا أمكن المسبوق إصلاح صلاته هنا بأن يتحول إلى القبلة دون اللاحق ، كذا في مجموع النوازل .

والحديث الذي أشار إليه أولا هو ما عن عامر بن ربيعة { كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل رجل منا على حياله ، فلما أصبحنا ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } } ضعفه الترمذي وآخرون .

وعن جابر { كنا في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا في القبلة ، فصلى كل رجل منا على حدة ، وجعل أحدنا يحط بين يديه فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا لغير القبلة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجيزت صلاتكم } ضعفه الدارقطني وغيره .

والحديث الآخر هو عن ابن عمر { بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة } متفق عليه ، ورواه مسلم وقال فيه فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى : ألا إن القبلة قد حولت ، فمالوا كما هم نحو الكعبة ( قوله وقال الشافعي إلخ ) لا يخفى أن تيقن الخطأ ثابت في توجهه إلى جهة اليمنة واليسرة ، فجعله المدار يوجب الإعادة في الصور كلها نعم في الاستدبار [ ص: 273 ] تمام البعد عن الاستقبال .

والوجه الذي يظهر مؤثرا ترك الجهة استدبارا أو غيره ، فمقتضى النظر أن يقول بشمول العدم ، هذا . وقد قاس على ظهور نجاسة ثوب صلى فيه أو ماء توضأ به حيث تجب الإعادة اتفاقا .

والجواب بالفرق بإمكان الوقوف على الصواب بالاستقصاء ثمة نظرا إلى قيام الدليل وهو قيام إحساسه بهما وإمكان الاستقصاء في صونهما ، أما هنا فالدليل هو رؤية النجم منعدم فلا يتصور الإصابة عن الدليل فلم يتجه بوجه من الوجوه نسبته إلى تقصير ، بخلاف صورة قيام الدليل .

وأيضا القبلة قبلت التحول شرعا من الشام إلى الكعبة عينها ثم جهتها ثم جهة التحري عند الاشتباه ولا إعادة بخلاف النجاسة والطهارة فإنه لم يثبت قبولهما التحول شرعا ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية