الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المثال الثالث والعشرون : لا يقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحروب والقتال مع النجدة والشجاعة وحسن السيرة في الاتباع ، فإن استووا فإن كانت الجهة واحدة تخير الإمام ، وله أن يقرع بينهم كي لا يجد بعضهم على الإمام بتقديم غيره عليه ، وإن تعددت الجهات صرف بكل واحد منهم إلى الجهة التي تليق به . [ ص: 76 ] والضابط في الولايات كلها أنا لا نقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها ، فيقدم في الأقوم بأركانها وشرائطها ، على الأقوم بسننها وآدابها ، فيقدم في الإقامة الفقيه على القارئ ، والأفقه على الأقرأ ; لأن الفقيه أعرف باختلال الأركان والشرائط ، وبما يطرأ على الصلاة من المفسدات ، وكذلك يقدم الورع على غيره ، لأن ورعه يحثه على إكمال الشرائط والسنن والأركان ، ويكون أقوم إذا بمصلحة الصلاة . وقدم بعض الأصحاب بنظافة الثياب ، لأن الغالب أن المتنزه من الأقذار التي ليست بأنجاس أنه يتنزه عن النجاسات ; فيكون أقوم بشرط الصلاة .

وكذلك يقدم البصير على الأعمى عند بعضهم لأنه يرى من النجاسات ما لا يراه الأعمى ; فيكون أشد تحرزا من النجاسات التي اجتنابها شرط في صحة الصلاة .

وأما غض الأعمى عن المحرمات فليس غضه شرطا في صحة الصلاة ، وأما غسل الموتى وتكفينهم وحملهم ودفنهم فيقدم فيه الأقارب لأن حنوهم على ميتهم يحملهم على أكمل القيام بمقاصد هذه الواجبات وكذلك يقدم الآباء على الأولاد ، لأن حنو الآباء أكمل من حنو الأولاد .

وكذلك يقدم القريب في الصلاة على الأموات على جميع أهل الولايات ; لأن من الصلاة الشفاعة للميت ، والقريب لفرط شفقته وشدة حزنه عليه يبالغ في الدعاء له ما لا يفعله الأجانب .

وكذلك تقدم الأمهات على الآباء في الحضانة لمعرفتهن بها وفرط حنوهن على الأطفال ، وإذا استوى النساء في درجات الحضانة فقد يقرع بينهن وقد يتخير والقرعة أولى .

ويقدم الآباء على الأمهات في النظر في مصالح أموال المجانين والأطفال .

وفي التأديب وارتياد الحرف والصناعات ، لأنهم أقوم بذلك وأعرف به من الأمهات .

وكذلك يقدم في ولاية النكاح الأقارب على الموالي والحكام ، ويقدم من الأقارب أرفقهم بالمولى عليه كالآباء والأجداد ، وإذا اجتمع [ ص: 77 ] أولياء النكاح في درجة واحدة كالإخوة والأعمام ، فالأولى للمرأة أن تأذن لأسنهم وأعلمهم وأفضلهم ، ولا تعدل إلى غيره لما في ذلك من كسر قلبه ، ولما في توليته من مصلحتها ، فإن أذنت الجميع جاز لتساويهم في تحصيل المصلحة المقصودة من النكاح ، فإذا أذنت لهم فالأفضل لهم أن يقدموا أفضلهم لما ذكرناه ، فإن لم يقدموا أحدهم وتنازعوا أيهم يتولى العقد أقرع بينهم لتساويهم . والإنسان يأنف من تقديم نظيره عليه ولا يأنف من تقديم من هو خير منه عليه .

وكذلك قلنا الأفضل أن يفوض العقد إلى أفضلهم ، ويقدم الجد على الأوصياء والأئمة والحكام ، ويقدم الأوصياء على الحكام ، وإنما قدمنا الأقرب من ذوي الأنساب لأن شفقته على المبالغة في جلب المصالح ودرء المفاسد .

ويجب على الأئمة في تفريق مال المصالح أن يصرفوه في تحصيل أعلاها مصلحة فأعلاها ، وفي درء أعظمها مفسدة فأعظمها .

التالي السابق


الخدمات العلمية