الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : المراد بمسح الرجلين غسلهما . والعرب تطلق المسح على الغسل أيضا ، وتقول تمسحت بمعنى توضأت ، ومسح المطر الأرض أي غسلها ، [ ص: 336 ] ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى ، ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل ، والمراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل ، وليس من حمل المشترك على معنييه ، ولا من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه ، لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه ، كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن ، وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله ، وجمع ابن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين ، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق ، وهما من المغسولات بلا نزاع ، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل ، يعني الدلك باليد أو غيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما ; أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : المراد بقراءة الجر : المسح ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ذلك لا يكون إلا على الخف .

                                                                                                                                                                                                                                      وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض ، والمسح على الخفين ، إذا لبسهما طاهرا ، متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به ، والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال : نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، متفق عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة " المريسيع " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك ، مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وهي آخر مغازيه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة " المريسيع " ابن حجر في " فتح الباري " ، وأشار له البدوي الشنقيطي في " نظم المغازي " ، بقوله في غزوة المريسيع : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      والإفك في قفولهم ونقلا أن التيمم بها قد أنزلا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ] والتيمم في آية المائدة ، وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود ، واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقا ساترا لمحل الفرض ، فقال مالك وأصحابه : لا يمسح على شيء غير الجلد ; فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفا من جلود ، أو جوربا مجلدا ظاهره وباطنه ، يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة ، وأن الرخص لا تتعدى محلها ، وقالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح على غير الجلد ; فلا يجوز تعديه إلى غيره ، وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها ، وهي : هل يلحق بالرخص ما في معناها ، أو يقتصر عليها ولا تعدى محلها ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن فروعها اختلافهم في بيع " العرايا " من العنب بالزبيب اليابس ، هل يجوز إلحاقا بالرطب بالتمر أو لا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وجمهور العلماء منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد ، لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد ، ولما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه مسح على الجوربين ، والموقين .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : والجورب : لفافة الرجل ، وهي غير جلد .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس : الجورب لفافة الرجل ، وفي اللسان : الجورب لفافة الرجل ، معرب وهو بالفارسية " كورب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير ، كما قاله بعض أهل العلم ، أما الجرموق والموق ، فالظاهر أنهما من الخفاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنهما شيء واحد ، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة . وقيل : إنهما متغايران ، وفي القاموس : الجرموق : كعصفور الذي يلبس فوق الخف ، وفي القاموس أيضا : الموق خف غليظ يلبس فوق الخف ، وفي اللسان : الجرموق ، خف صغير ، وقيل : خف صغير يلبس فوق الخف ، في اللسان أيضا : الموق الذي يلبس فوق الخف ، فارسي معرب ، والموق : الخف اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : والتساخين : الخفاف ، فليس في الأحاديث ما يعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح [ ص: 338 ] على غير الجلد ، والجمهور قالوا : نفس الجلد لا أثر له ، بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي ، يجوز المسح عليه ، جلدا كان أو غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية