الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الشرط السابع : المتابعة ، فيجب على المأموم متابعته ، فلا يتقدم في الأفعال . والمراد من المتابعة : أن يجري على أثر الإمام ، بحيث يكون ابتداؤه بكل واحد منها ، متأخرا عن ابتداء الإمام به ، ومتقدما على فراغه منه . فلو خالف فله أحوال : الأول : أن يقارنه ، فإن قارنه في تكبيرة الإحرام أو شك هل قارنه أو ظن أنه تأخر فبان مقارنته لم تنعقد . ويشترط تأخر جميع تكبيرة المأموم ، عن جميع تكبيرة الإمام . ويستحب للإمام أن لا يكبر حتى يسووا الصفوف ، ويأمرهم به ملتفتا يمينا وشمالا . وإذا فرغ المؤذن من الإقامة ، قام الناس فاشتغلوا بتسوية الصفوف . وأما ما عدا التكبير ، فغير السلام تجوز المقارنة فيه ، ولكن تكره ، وتفوت بها فضيلة الجماعة ، وفي السلام وجهان . أصحهما : جوازها .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يتخلف عن الإمام ، فإن تخلف بغير عذر ، نظر إن [ ص: 370 ] تخلف بركن واحد ، لم تبطل صلاته على الأصح ، وإن تخلف بركنين بطلت قطعا . ومن صور التخلف بغير عذر ، أن يركع الإمام وهو في قراءة السورة ، فيشتغل بإتمامها ، وكذا التخلف للاشتغال بتسبيحات الركوع والسجود . وأما بيان صور التخلف بركن ، فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير ، فالقصير : الاعتدال عن الركوع ، وكذا الجلوس بين السجدتين على الأصح . والطويل : ما عداهما . ثم الطويل مقصود في نفسه . وفي القصير وجهان . أحدهما : مقصود في نفسه وبه قال الأكثرون ، ومال الإمام إلى الجزم به . والثاني : لا ، بل تابع لغيره . وبه قطع في ( التهذيب ) . فإذا ركع الإمام ، ثم ركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس هذا تخلفا بركن ، فلا تبطل به الصلاة قطعا . فلو اعتدل الإمام ، والمأموم بعد قائم ، ففي بطلان صلاته وجهان ، اختلفوا في مأخذهما ، فقيل : مأخذهما : التردد في أن الاعتدال ركن مقصود أم لا ؟ إن قلنا : مقصود فقد فارق الإمام ركنا ، واشتغل بركن آخر مقصود ، فتبطل صلاة المتخلف . وإن قلنا : غير مقصود فهو كما لو لم يفرغ من الركوع ، لأن الذي هو فيه تبع له ، فلا تبطل صلاته . وقيل : مأخذهما الوجهان ، في أن التخلف بركن يبطل أم لا ؟ إن قلنا : يبطل فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته ، وإن قلنا : لا ، فما دام في الاعتدال ، لم يكمل الركن الثاني ، فلا تبطل .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح لا تبطل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه ، والمأموم بعد قائم ، فعلى المأخذ الأول لا تبطل صلاته ، لأنه لم يشرع في ركن مقصود ، وعلى الثاني : تبطل ، لأن ركن الاعتدال قد تم . هكذا ذكره إمام الحرمين ، والغزالي . وقياسه أن يقال : إذا ارتفع عن حد الركوع والمأموم بعد في القيام فقد حصل التخلف بركن وإن لم يعتدل الإمام فتبطل الصلاة عند من يجعل التخلف بركن مبطلا . [ ص: 371 ] أما إذا انتهى الإمام إلى السجود ، والمأموم بعد في القيام فتبطل صلاته قطعا . ثم إذا اكتفينا بابتداء الهوي عن الاعتدال ، وابتداء الارتفاع عن حد الركوع ، فالتخلف بركنين : هو أن يتم للإمام ركنان ، والمأموم بعد فيما قبلهما ، وبركن : هو أن يتم للإمام الركن الذي سبق والمأموم بعد فيما قبله ، وإن لم يكتف بذلك فللتخلف شرط آخر ، وهو أن لا يلابس - مع تمامهما أو تمامه - ركنا آخر . ومقتضى كلام صاحب ( التهذيب ) ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود ، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الإمام وسجد . هذا كله في التخلف بغير عذر . أما الأعذار فأنواع منها : الخوف ، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        ومنها : أن يكون المأموم بطيء القراءة ، والإمام سريعها ، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة ، فوجهان . أحدهما : يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها . فعلى هذا لو اشتغل بإتمامها ، كان متخلفا بلا عذر . والصحيح الذي قطع به صاحب ( التهذيب ) وغيره ، أنه لا يسقط بل عليه أن يتمها ، ويسعى خلف الإمام على نظم صلاته ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة ، فإن زاد على الثلاثة فوجهان . أحدهما : يخرج نفسه عن المتابعة لتعذر الموافقة . وأصحهما : له أن يدوم على متابعته . وعلى هذا وجهان . أحدهما : يراعي نظم صلاته ، ويجري على أثره . وبهذا أفتى القفال . وأصحهما : يوافقه فيما هو فيه ، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام . وهذان الوجهان ، كالقولين في مسألة الزحام . ومنها أخذ التقدير بثلاثة أركان مقصودة ، فإن القولين في مسألة الزحام ، إنما هما إذا ركع الإمام في الثانية . وقبل ذلك لا يوافقه ، وإنما يكون التخلف قبله بالسجدتين والقيام . ولم يعتبر الجلوس بين السجدتين على مذهب من يقول : هو غير مقصود ، ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثرا . وأما من لا يفرق بين المقصود وغيره ، أو يفرق ويجعل الجلوس مقصودا ، أو ركنا طويلا ، فالقياس على أصله ، [ ص: 372 ] التقدير بأربعة أركان أخذا من مسألة الزحام . ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح ، فلم يتم الفاتحة لذلك فركع الإمام ، فيتم الفاتحة كبطيء القراءة . وكان هذا في المأموم الموافق . أما المسبوق إذا أدرك الإمام قائما وخاف ركوعه ، فينبغي أن لا يقرأ الاستفتاح ، بل يبادر إلى الفاتحة ، فإن ركع الإمام في أثناء الفاتحة فأوجه . أحدها : يركع معه وتسقط باقي الفاتحة ، والثاني : يتمها . وأصحها : أنه إن لم يقرأ شيئا من الاستفتاح ، قطع الفاتحة وركع ، ويكون مدركا للركعة . وإن قرأ شيئا منه ، لزمه بقدره من الفاتحة لتقصيره . وهذا هو الأصح عند القفال والمعتبرين ، وبه قال أبو زيد . فإن قلنا : عليه إتمام الفاتحة ، فتخلف ليقرأ كان تخلفا بعذر ، فإن لم يتمها وركع مع الإمام ، بطلت صلاته . وإن قلنا : يركع فاشتغل بإتمامها ، كان متخلفا بلا عذر . وإن سبقه الإمام بالركوع ، وقرأ هذا المسبوق الفاتحة ، ثم لحقه في الاعتدال ، لم يكن مدركا للركعة . والأصح : أنه لا تبطل صلاته إذا قلنا : التخلف بركن لا يبطل كما في غير المسبوق . والثاني : يبطل ، لأنه ترك متابعة الإمام فيما فاتت به ركعة ، فكان كالتخلف بركعة .

                                                                                                                                                                        ومنها : الزحام ، وسيأتي في الجمعة ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        ومنها : النسيان . فلو ركع مع الإمام ثم تذكر أنه نسي الفاتحة أو شك في قراءتها لم يجز أن يعود ، لأنه فات محل القراءة ، فإذا سلم الإمام ، قام وتدارك ما فاته . ولو تذكر أو شك بعد أن ركع الإمام ولم يركع هو ، لم تسقط القراءة بالنسيان . وماذا يفعل ؟ وجهان . أحدهما : يركع معه ، فإذا سلم الإمام قام فقضى ركعة ، وأصحهما : يتمها ، وبه أفتى القفال . وعلى هذا تخلفه تخلف معذور على الأصح ، وعلى الثاني : تخلف غير معذور لتقصيره بالنسيان .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يتقدم على الإمام بالركوع أو غيره من الأفعال الظاهرة [ ص: 373 ] فينظر ؛ إن لم يسبق بركن كامل ، بأن ركع قبل الإمام ، فلم يرفع حتى ركع الإمام - لم تبطل صلاته ، عمدا كان أو سهوا . وفي وجه شاذ : تبطل إن تعمد . فإذا قلنا : لا تبطل ، فهل يعود ؟ وجهان . المنصوص ، وبه قال العراقيون : يستحب أن يعود إلى القيام ويركع معه . والثاني : وبه قطع صاحبا ( النهاية ) و ( التهذيب ) : لا يجوز العود ، فإن عاد بطلت صلاته ، وإن فعله سهوا فالأصح أنه مخير بين العود والدوام . والثاني : يجب العود ، فإن لم يعد بطلت صلاته ، وإن سبق بركنين فصاعدا بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه . وإن كان ساهيا ، أو جاهلا ، لم تبطل ، لكن لا يعتد بتلك الركعة ، فيأتي بها بعد سلام الإمام ، ولا يخفى بيان التقدم بركنين من قياس ما ذكرناه في التخلف . ومثل أئمتنا العراقيون ذلك بما إذا ركع قبل الإمام ، فلما أراد الإمام أن يركع رفع فلما أراد أن يرفع سجد فلم يجتمعا في الركوع ولا في الاعتدال ، وهذا يخالف ذلك القياس ، فيجوز أن يقدر مثله في التخلف ، ويجوز أن يخص ذلك بالتقدم ، لأن المخالفة فيه أفحش . وإن سبق بركن مقصود ، بأن ركع قبل الإمام ، ورفع والإمام في القيام ثم وقف حتى رفع الإمام ، واجتمعا في الاعتدال ، فقال الصيدلاني ، وجماعة : تبطل صلاته . قالوا : فإن سبق بركن غير مقصود كالاعتدال ، بأن اعتدل وسجد ، والإمام بعد في الركوع ، أو سبق بالجلوس بين السجدتين ، بأن رفع رأسه من السجدة الأولى ، وجلس وسجد الثانية والإمام بعد في الأولى ، فوجهان . وقال العراقيون ، وآخرون : التقدم بركن لا يبطل كالتخلف به . وهذا أصح وأشهر . وحكي عن نص الشافعي رضي الله عنه . هذا في الأفعال الظاهرة ، فأما تكبيرة الإحرام ، فالسبق بها مبطل كما تقدم ، وأما الفاتحة والتشهد ، ففي السبق بهما أوجه . الصحيح : لا يضر ، بل يجزئان . والثاني : تبطل الصلاة . والثالث : لا تبطل . ويجب إعادتهما مع قراءة الإمام أو بعدها .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية