الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا مات في سفينة ، إن كان بقرب الساحل ، أو بقرب جزيرة ، انتظروا ليدفنوه في البر ، وإلا شدوه بين لوحين لئلا ينتفخ وألقوه في البحر ليلقيه البحر إلى الساحل لعله يقع إلى قوم يدفنونه ، فإن كان أهل الساحل كفارا ، ثقل بشيء ليرسب .

                                                                                                                                                                        قلت : العجب من الإمام الرافعي مع جلالته ، كيف حكى هذه المسألة على هذا الوجه ، وكأنه قلد فيه صاحبي ( المهذب ) و ( المستظهري ) في قولهما : إن كان أهل الساحل كفارا ، ثقل ليرسب ، وهذا خلاف نص الشافعي ، وإنما هو مذهب المزني ، لأن الشافعي - رحمه الله - قال : يلقى بين لوحين ليقذفه البحر . قال [ ص: 142 ] المزني : هذا الذي قاله الشافعي ، إذا كان أهل الساحل مسلمين ، فإن كانوا كفارا ، ثقل بشيء لينزل إلى القرار . قال أصحابنا : الذي قاله الشافعي أولى ، لأنه يحتمل أن يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة . وعلى قول المزني : يتيقن ترك الدفن . هذا الذي ذكرته هو المشهور في كتب الأصحاب ، وذكر الشيخ أبو حامد ، وصاحب ( الشامل ) وغيرهما : أن المزني ذكرها في ( جامعه ) الكبير ، وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم وقال : إنما ذكرها المزني في ( جامعه ) كما قالها الشافعي في ( الأم ) . قال الشافعي : فإن لم يجعلوه بين لوحتين ليقذفه الساحل ، بل ثقلوه وألقوه في البحر ، رجوت أن يسعهم ، كذا رأيته في ( الأم ) . ونقل الأصحاب أنه قال : لم يأثموا ، وهو بمعناه . وإذا ألقوه بين لوحين ، أو في البحر ، وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه ، والصلاة عليه بلا خلاف ، وقد أوضحت المسألة في ( شرح المهذب ) بأبسط من هذا ، وقد بقيت من باب الدفن بقايا . قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : يستحب أن يجمع الأقارب في موضع واحد من المقبرة . ومن سبق إلى موضع من المقبرة المسبلة ليحفره ، فهو أحق من غيره . قال أصحابنا : ويحرم أن يدفن في موضع فيه ميت حتى يبلى ولا يبقى عظم ولا غيره . قالوا : فإن حفر فوجد عظامه ، أعاد القبر ولم يتم الحفر . قال الشافعي - رحمه الله - : فإن فرغ من القبر فظهر شيء من العظام ، جاز أن تجعل في جانب القبر ويدفن الثاني معه . قال الشافعي والأصحاب : ولو مات له أقارب دفعة ، وأمكنه دفن كل واحد في قبر ، بدأ بمن يخشى تغيره ، ثم الذي يليه في التغير . فإن لم يخش تغير ، بدأ بأبيه ، ثم أمه ، ثم الأقرب فالأقرب . فإن كانا أخوين ، فأكبرهما . فإن كانتا زوجتين ، أقرع بينهما . ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار ، ولا كافر في مقبرة المسلمين . قال أصحابنا : ولا يكره الدفن بالليل . قالوا : وهو مذهب العلماء كافة ، إلا الحسن البصري . قالوا : لكن المستحب ، أن يدفن نهارا . قال الشافعي في ( الأم ) والأصحاب : ولا يكره الدفن في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 143 ] ونقل الشيخ أبو حامد ، وصاحب ( الحاوي ) ، والشيخ نصر ، وغيرهم ، الإجماع عليه ، وبه أجابوا عن حديث عقبة بن عامر في ( صحيح مسلم ) : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيهن ، وأن نقبر فيهن موتانا ) وذكر وقت الاستواء ، والطلوع ، والغروب . وأجاب القاضي أبو الطيب ، ثم صاحب ( التتمة ) ، بأن الحديث محمول على تحري ذلك وقصده . ويكره المبيت في المقبرة . وأما نقل الميت من بلد إلى بلد قبل دفنه ، فقال صاحب ( الحاوي ) قال الشافعي : لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة ، أو بيت المقدس ، فنختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها . وقال صاحب ( التهذيب ) ، والشيخ أبو نصر البندنيجي من العراقيين : يكره نقله . وقال القاضي حسين ، وأبو الفرج الدارمي ، وصاحب ( التتمة ) : يحرم نقله . قال القاضي وصاحب ( التتمة ) : ولو أوصى به ، لم تنفذ وصيته ، وهذا أصح ، فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه . ولو ماتت امرأة في جوفها جنين حي ، قال أصحابنا : إن كان يرجى حياته ، شق جوفها وأخرج ثم دفنت ، وإلا فثلاثة أوجه . الصحيح : لا يشق جوفها ، بل يترك حتى يموت الجنين ثم تدفن . والثاني : يشق . والثالث : يوضع عليه شيء ليموت ثم تدفن ، وهذا غلط وإن كان قد حكاه جماعة ، وإنما ذكرته لأبين بطلانه . قال صاحب ( الحاوي ) : قال الشافعي - رحمه الله - : لو أن رفقة في سفر مات أحدهم فلم يدفنوه ، نظر ، إن كان بطريق يخترقه المارة ، أو بقرب قرية للمسلمين ، فقد أساءوا ، وعلى من بقربه من المسلمين دفنه . وإن كان بصحراء ، أو موضع لا يمر به أحد ، أثموا وعلى السلطان معاقبتهم ، إلا أن يخافوا - لو اشتغلوا به - عدوا ، فيختار أن يواروه ما أمكنهم . فإن تركوه ، لم يأثموا ، لأنه موضع ضرورة . قال الشافعي : لو أن مجتازين مروا بميت في صحراء ، لزمهم القيام به رجلا كان أو امرأة . فإن تركوه أثموا . ثم إن كان بثيابه ليس عليه أثر غسل ولا تكفين ، وجب عليهم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه . وإن كان عليه أثر الغسل والكفن والحنوط ، دفنوه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 144 ] فإن أرادوا الصلاة عليه ، صلوا بعد دفنه على قبره ، لأن الظاهر أنه صلي عليه . وقد ألحقت في هذا الباب أشياء كثيرة ، وبقيت منها نفائس ومتممات استقصيتها في ( شرح المهذب ) تركتها لكثرة الإطالة . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية