الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من ثقافة التربية في القرآن الكريم

من ثقافة التربية في القرآن الكريم

من ثقافة  التربية في القرآن الكريم

د. مصطفى رجب
قال تعالى:
" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبتِ لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً." [ مريم / 41- 45]
إنها خمس آيات تضمنت إحدى وخمسين كلمة !! تخشع أمامها قلوب العارفين، وتقشعر لسماعها جلود المخبتين، والآيات الخمس تضم فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة.

إنه الإعجاز التربوي للقرآن الكريم في صورة من صوره : صورة الحوار بين مرب وجهول، عالم وعنيد، نبي وكافر. إعجاز يقوم على أسس من الإقناع والتبصير ومحاولة تعديل السلوك الخاطئ مستعيناً في سبيل ذلك بكل ما آتاه الله تعالى من حكمة وحسن تقدير.
وفيما يلي تحليل لبعض جوانب هذا الإعجاز التربوي الفذ في مجال من أهم مجالات التربية وهو ذلك المجال المتصل بأدوار المعلم :

أولاً : استثارة الدافعية :
من المسلم به عند التربويين أنه ( لا تعلم بدون دافعية ) فالمعلم مهما يبلغ من النبوغ والبراعة، لا يمكنه دفع طلابه إلى التعلم إذا ما كانوا عنه معرضين، وفي علمه زاهدين، أما إذا توفر لديهم دافع داخلي يحفزهم فانهم يقبلون على التعليم بعقول متفتحة، وقلوب واعية. لأن الدافعية تبعث في النفوس طاقة انفعالية وتتحول هذه الطاقة إلى نشاط محسوس ويرتهن نجاح المعلم في عمله بقدرته على استغلال دوافع تلاميذه من أجل تحريك نشاطهم وتعديل سلوكهم من أجل تحقيق أهداف يحددها لهم.
وقد بدأ سيدنا إبراهيم – عليه السلام- حواره مع أبيه بأن وضع له هدفاً يمس حياته مسًّا مباشراً، وهو النفع أو المصلحة المبتغاة من عبادة الآلهة. فإذا كان الإله الذي يعبده المرء لا يسمع ولا يبصر فكيف يمكنه أن يساعد من يعبدونه؟ أو يحقق لهم نفعاً؟ أو يدفع عنهم ضرراً؟ بدأ إبراهيم حواره بإثارة النشاط العقلي عند أبيه لكي يحرك عنده طاقة انفعالية تجعله يفكر بالصورة الصحيحة في تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر.

ثانياً: استعمال الحوافز:
ينجح المعلم بقدر تمكنه من استعمال الحوافز مع طلابه، فإذا آنس فيهم شرودًا، أو عنادًا، أو خروجاً على المألوف، أو صدوفاً عن التعليم، احتال لذلك بما يتوفر لديهم ولديه من حوافز مادية أو معنوية كأن يعدهم بمكافأة أو نزهة أو حفل أو ما شابه ذلك مما تتوق إليه النفوس، وتنشط له الأبدان.
وسيدنا إبراهيم عليه السلام، بعد أن سعى إلى تنشيط عقل أبيه بالتفكير في جدوى عبادة الأصنام، أدرك أن هذا التفكير عملية عقلية معقدة بالنسبة لإنسان جامد الفكر، خامد الهمة ، فأراد أن يقدم له حافزاً يشجعه به على المضيّ في عملية التفكير، فأخبره بأن ما منَّ الله به عليه من العلم سوف يجعله في خدمة أبيه، وأن أباه لو أطاعه، وأعمل عقله فيما يعبد، لوصل إلى الحقيقة التي يتهرب منها: وهي أن هذه الأصنام التي ورث عبادتها عن آبائه وجدوده لا تنفع ولا تضر، ولابد أن لهذا الوجود خالقاً يجل عن التجسيم. وهذا الخالق – جل وعلا – هو الذي رزق إبراهيم العلم.
فإبراهيم في هذا النداء الثاني ( ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويّا ) يحفز أباه على الدخول معه في دنيا الإيمان الصافي بالخالق القادر.

ثالثاً: بسط الحقائق والتبصير بها :
ومن مهمات المعلم أن ببسط أمام طلابه حقائق الموقف التعليمي، ويبصَّرهم بما لتلك الحقائق من أبعاد مختلفة تتصل بهم، وبحياتهم، واهتماماتهم، ومصالحهم. حتى يحقق لهم بذلك البسط والتبصير القانون الذي يسميه التربويون [ قانون التعرف] بمعنى أن المتعلم إذا كان ذا معرفة بعناصر الموقف المراد تعلمه، فان هذا يسهل عليه استيعاب هذا الموقف الجديد والتكيف معه . وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم – عليه السلام – حين ربط لأبيه بين عبادة الأصنام، وعبادة الشيطان. وهذا أمر قد يغيب عن ذهن ذلك الأب الذي أعماه التقليد عن إدراك حقائق الموقف الجامد الذي يقفه من دعوة ابنه. فهو لا يدرك أن عبادته للأصنام ماهي إلا عبادة للشيطان في الحقيقة. لأن الأصنام حجارة لا قدرة لها على التأثير في نفسها ولا في غيرها. أما الشيطان فله سلطان على النفوس الضعيفة فهو الذي يسوَّل لها، ويزين لها، ويوسوس لها. وقد عصى ربه سبحانه وتعالى، فمن أطاعه فقد أطاع عاصياً لله، فهو عاصٍ بالتبعية.

رابعاً: التهديد بالعقاب:
ومن شأن المعلم إذا أخفق أسلوب التنشيط العقلي، واستعمال الحوافز، وبسط الحقائق، أن يلجاً إلى ما ترتدع به النفوس الشاردة، وترعوي به القلوب الجاحدة، وهو أسلوب العقاب، أو التهديد باستخدام العقاب.
وهذا ما فعله إبراهيم عليه السلام في نهاية حواره، حين لم يلمح في وجه أبيه اطمئناناً إلى حديثه، ولا ثقةً بحججه، ولا رغبةً في اتباعه، بادر بتخويفه من عذاب الله تعالى، ومن موالاة الشيطان الذي هو عدو لله وعدو للمؤمنين.
وقد أوضحت الآيات التالية من الحوار، ما ردّ به الأب الجهول على ابنه النبي العالم الصالح القانت الراغب في إنقاذ أبيه، من براثن الجهل، ووهاد الضلال، ودركات التبعية العمياء. " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً "[ مريم / 46 ] وهكذا.. كانت عماية الجهل، وغواية الانقياد والأعمى للموروث الثقافي المتهافت، غشاوةً على عقل الرجل، فلم يستجب لنداء الحق والإيمان، وختم الله على سمعه وبصره وبصيرته فلم يتبين أنوار الهداية التي تذرعت بكل أساليب الإقناع:
- بالدعوة إلى أعمال العقل
- وبالتحفيز على اتباع العلم
- وبشرح أسباب الغواية
- وبالتخويف من العقاب!!
وبالرغم من هذا الجفاء، وتلك الغلظة، لم يفقد إبراهيم عليه السلام حلمه، ولا أساء الأدب في حواره مع أبيه.
وقال له في محاولة أخيرة لا ستدرار عاطفته وإنذار عقله : سلام عليك سأستغفر لك ربي!!

أين هذا المستوى الرفيع من الخلق النبيل ؟ إننا نرى في المجتمعات المعاصرة شباباً يتنكرون لآبائهم وأمهاتهم، وفيما تنشره الصحف وتذيعه الإذاعات من قضايا الأسرة ما يشيب لهوله الوِلْدان : فهذا شاب أوتي قسطاً من التعليم يستكبر على أبيه، لان أباه رجل بسيط فقير الحال، فكأنه يتنكر لأصله. وهذا شاب أبوه غني ولكن الأجل يمتد به، والابن يتعجل الميراث فإذا به يقاضي أباه أمام المحاكم ويطلب الحجر عليه !! والأكثر بشاعة حين تمتد أيدي الشباب الفاسد إلى الوالدين بالضرب والإهانة..
إن أبا إبراهيم هنا يهدده بالرجم والطرد من المنزل.. والابن يرد في حلم العالم وعلم الحليم: سلام عليك سأستغفر لك ربي!!
آليات عمل المعلم التربوية كما تظهر من الحوار:
إن الآيات الخمس على وجازتها تتضمن معالم تربوية يحسن إبرازها في صورة نقاط تتعلق بمهام المعلم وأدواره وآليات عمله كما تظهر في حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه. ومنها:

1- استدرار عاطفة المتعلم :
إن تكرار كلمة ( يا أبت ) أربع مرات في الآيات الأربع التي توجه فيها إبراهيم – عليه السلام – بالخطاب إلى أبيه يدل على أهمية أن يكون تركيز المعلم في أسلوبه التربوي على ما يثير عواطف المتعلمين ويحرك مشاعرهم الانفعالية الإيجابية نحو الموقف التعليمي. فهو بهذا النداء المتكرر، يستدر عاطفة الأبوة، ويمد جسراً من الثقة بينه – وهو النبي العالم- وبين أبيه الجاهل الكافر العنيد وكأن علاقة الأبوة والبنوة – في تقديره – ستسهم في تحريك مشاعر الرجل ومن ثم تحريك عقله.

2- أسلوب الاستفهام منشط للفكر:
يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ؟ هكذا بدأ إبراهيم عليه السلام حواره مع أبيه، إدراكاً منه أن ما يسميه التربويون بـ " الإثارة " أو " التمهيد " للدرس – عنصر جوهري من عناصر العملية التعليمية، إنه بدأ الحوار الهادئ بسؤالٍ لا هدوء فيه على الإطلاق. سؤال يتصادم مع معتقدات موروثة تشبه بحيرة آسنة ساكنة ، ران عليها السكون قروناً وآمادًا طوالاً. فهو يلقي فيها بحجر من الحجم الثقيل ليحرك سكونها. وهكذا.. من واجب المعلم أن يكون بدء تدريسه قوياً مثيرًا فعَّالاً: بأسئلة تهز الوجدان وتزلزل العقول وتدفع المتعلم دفعاً إلى التفكير المستقل الحر.

3- ثقة المعلم بنفسه ضرورية:
إن قوة شخصية المعلم تقوم بالدرجة الأولى على مدى ثقته بنفسه، وبمادته العلمية، ورسالته الإنسانية.فإذا ما توفرت له ثقة بنفسه، وأحسن إعداد مادته العلمية، وآمن بنقل رسالته وصدقه مع نفسه في أدائها. كان ذلك أدعى إلى تحقيق أهدافه، وإنجاح عمله التربوي. ونحن نلمس هذا واضحاً في حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه من خلال:
أ‌- التصريح بأن ما عنده من العلم يفوق ما عند أبيه.
ب‌- استعمال أسلوب التوكيد الذي يعكس ثقته بنفسه من جهة ويسعى إلى كسب ثقة الطرف الآخر بما يقوله من جهة أخرى "
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك"
ج- تنويع أساليب الخطاب من سؤال، إلى تحفيز، إلى تهديد بالعقاب.

4- الحلم وسعة الصدر:
لا ينجح المعلم في أداء مهمته إذا كان عجولاً، يؤوساً، مقهورًا. وإنما ينجح بقدر ما يتحلى به من صبر ومصابرة، وقدرةٍ على التحمل فان المتعلمين قد يصدر منهم سوء أدب، أو فظاظة في الحوار، أو غلظة في الرد، أو تعدٍ على المعلم باليد أو اللسان. وعلى المعلم أن يكون قادرًا على امتصاص ذلك كله وإحسان التعامل معه.وتدلنا الآيات على أن إبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد كل وسائل الإقناع والتأثير، لم يجد من أبيه آذاناً صاغية ولا قلباً مفتوحاً. بل وجد إصرارًا على الكفر، وسوء رد ، وغلظة في الحديث ، فهو يقول أربع مرات (يا أبت ) وهو أسلوب نداء ترغيبي لأن ياء المتكلم في قوله ( يا أبي ) أبدلت تاءً. والمقام بينهما لا يحتاج إلى نداء. لأن الحوار مباشر وهما متقابلان وجهاً لوجه لكن تكرار النداء بالأبوة فيه تحنين للقلب الجامد، ومحاولة متكررة لاستحضار ملكات السمع والذهن الشاردة. ومع ذلك فان الأب الجهول يستكثر أن ينادي ابنه بقوله [ يا بنَّي ] مسايرة لخطابه إياه بقوله [ يا أبت ]. بل انه يقول له : يا إبراهيم ليؤكد إن بينهما أمدًاَ بعيداً من الانفصال العقلي والوجداني.

5- التنويع في أساليب التعليم :
على المعلم لكي ينجح في عمله أن ينوَّع أساليبه التدريسية حتى يصل إلى أهدافه. وإبراهيم عليه السلام في هذا الحوار، سعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد بالعقاب ونستفيد من هذه الأساليب وتقديرها أنها هي الأسلوب الأمثل لما يجب إن يكون عليه المعلم من سعة أفق ، وقدرةٍ على التكيف، ومرونةٍ في الأداء. والله أعلم.
______________
جريدة المصريون
بتصرف

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة