تَاحَ للإسلام أن ينداح بسرعة وسهولة نسبية إلى شتى أنحاء العالم، حتى استقر فيها استقراراً راسخاً، وذلك فيما عدا استثناءات قليلة مثلتها الأندلس وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط.
أما انتقال الإسلام إلى العالم الجديد فقد تأخر واكتنفته ولا تزال تكتنفه صعوبات أخَّرت عملية تغلغله وتأصله في تلك الأنحاء.
المستكشفون الأوائل:
ويلاحظ المستقرئ لتاريخ الهجرة الأولى التي جاءت بالمسلمين إلى القارة الأمريكية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً؛ أنه قد صاحبتها ظروف لم يتمكن أولئك المهاجرون من تطويعها، بل تمكنت من تطويعهم وتذويبهم في المصهر الأمريكي حتى غدوا مواطنين أمريكيين بلا هوية أصلية يعتدون بها، والقلائل منهم ممن تهيأ لهم الاحتفاظ بشيء من معالم الهوية الأصلية، فإن حديثهم عنها لم يعد سـوى حديث الذكريات البعـيدة التي يحمـلها شتى المهاجرين المتأمركين عن أوطانهم الأولى.
وقد جاء المسلمون الأوائل إلى أمريكا مستكشفين لهذه الديار القصية عن العالم القديم، بيْد أنهم لم يأتوا في ظروف نهضة صناعية ولا أوضاع تفوّق علمي باهر، ولا جاؤوا بأعداد كبيرة بحيث تتم لهم الغلبة التامة والسيطرة على المحيط الذي انتهوا إليه.
وقد أكثرت الوثائق التاريخية من ذكر أخبار الأقوام الذين هبطوا العالم الجديد قبل كولومبوس، فتُحدِّثنا الوثائق الصينية القديمة التي تعرّضت للحديث عن مختلف الهجرات العالمية، مفصلة القول في هجرة بعض العرب المسلمين من أتباع دولة المرابطين المغربية التي دامت بين القرنين الحادي والثاني عشر الميلاديين، فتقول إن تلك الهجرة قطعت بحراً كبيراً خالياً من الجزر ومخرت أمواجه لأكثر من مائة يوم حتى انتهت إلى ما يعرف اليوم بأمريكا.
وتعرّضت الوثيقة للحديث عن حجم السفن التي امتطاها العرب القدامى، فذكرت أنها كانت أضخم عشرات المرات من السفن التي أتى بها المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبس. وبقية ما جاء من تفاصيل في الوثيقة يتفق تماماً مع ما أورده المؤرخ الإسلامي الشريف الإدريسي عن رحلة عربية أخرى في كتابه: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، الذي نال شهرة ضافية في السنوات الأخيرة في أوساط بعض الباحثين والمؤرخين الغربيين.
والواضح في أمر هاتين الرحلتين أن أصحابهما رجعوا أدراجهم حتى بلغوا ديارهم، وحدّثوا أهاليهم أنهم قد التقوا في أمريكا أقواماً كانوا قد وصلوها قبلهم، وألفوهم يتحدثون مثلهم بلغة الضاد، وتولوا أمر الترجمة بينهم وبين السكان المحليين، وهنالك تفاصيل أخرى اهتم بسردها الإدريسي بخاصة لا تهمنا في هذا السياق.
ولم تتحدث أي وثيقة لاحقة عن مصير العرب الأوائل الذين استوطنوا أمريكا منذ القرن العاشر الميلادي فيما يثير الافتراضات المرجحة بأنهم ربما اندمجوا تدريجياً في السكان المحليين وفقدوا مقوماتهم وثقافاتهم الذاتية، أو ربما اندثروا بفعل الحروب الطاحنة التي كانت تدور بين المجموعات الإثنية بأمريكا في ذلك الأوان.
وفي أوائل القرن الرابع عشر الميلادي طرقت بعثة استكشافية إسلامية إفريقية أخرى شواطئ أمريكا، يقودها ملكٌ من مالي يسمى أبو بكر، كان غنياً غنى أسطورياً تحدث عنه ابن بطوطة والقلقشندي وابن فضل الله العمري.
وقد قرر ذلك الملك أن يسـتخدم تلك الثروة الهائلة فـيركب ثبج البحر ليكـتشف ما وراءه من الآفاق، وقد حكى العمري أنه سأل ابن أبي بكر عن سرِّ انتقال الملك إليه، فأفاده قائلاً: «إن الذي كان قبلي يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك، فجهز مِئين سفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفد أزوادهم، فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منهم سفينة واحدة، وحضر مقدَّمها، فسأله عن أمرهم، فقال: سارت السفن زماناً طويلاً حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب، وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي، فلم يصدقه، فجهز ألفاً للرجال وألفاً للأزواد، واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك، فكان آخر العهد به وبمن معه».
وقد حقق في تفاصيل ما جرى لهاتين البعثتين عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي المعاصر البروفيسور إيفان فان سيرتيما، فأكد أن الأولى تحطمت على التيار المائي الاستوائي الذي يجري داخل المحيط قرابة سواحل فلوريدا، ورجَّح بشواهد أثرية لقبور أشخاص سود ترجع إلى تلك الفترة بالتحديد وصول البعثة الثانية واستقرارها في نواحي فلوريدا والمكسيك واختلاطها بالهنود الحمر هناك.
وربما كان بقايا هؤلاء الرجال هم أولئك السود الذين التقاهم كريستوفر كولومبس وتحدث عنهم في مذكراته عن الرحلة الثالثة، ووصفهم بأنهم كانوا سود البشرة، ويحملون أسلحة مذهبة، وأنهم أغنياء بما لهم من متاع وأدوات، وربما تمت إبادة هؤلاء السكان لاحقاً ضمن الأقوام والسكان المحليين الذين أجهز عليهم المهاجرون الأوروبيون الذين توافدوا على القارة الأمريكية إثر كولومبس. وربما كانت المساجد الأثرية التي اكتشفت في كل من نيفادا وتكساس والمكسيك من بقايا آثارهم.
وقد ذكر كولومبس في مذكراته بتاريخ الحادي عشر من أكتوبر1492م، أنه ربما رأى مسجداً بمنارة طويلة قبالة الساحل الكوبي ، وكولومبس يعرف المساجد جيداً؛ لأنه أتى من الأندلس المسلمة في عام سقوطها في يد النصارى ، فإن كان ما رآه مسجداً بالفعل فلعله كان أيضاً من آثار أولئك الأفارقة المسلمين الذين هبطوا أمريكا قبله.
وأما غناهم الذي وصفه كولومبوس ووصفه من قبله ابن بطوطة والقلقشندي وآخرون، فمع أنه أوصلهم إلى حواشي العالم الجديد، إلا أنه ظل غنىً(شيئياً) - بلغة مالك بن نبي، رحمه الله - لم يغن عنهم شيئاً، إذ لم يتحول إلى مادة ثورة صـناعية تنتج ما يقابل ويكافئ السلاح الأوروبي الحديث الذي استخدم لاستئصال وجودهم من على التراب الأمريكي!
آثار الموريسكيين:
وفي ظروف التضييق على مسلمي الأندلس من قبل محاكم التفتيش النصرانية، فرت أعداد متكاثرة منهم إلى المغرب العربي، حيث استقروا هناك، بيد أن أعداداً وفيرة أخرى قطعت المحيط الأطلسي واستقرت في أمريكا.
وهؤلاء وُجدت آثار لغتهم العربية مختلطة - حتى اليوم! - بلغة الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، كما أكد ذلك بشكل قاطع أستاذ جامعة هارفارد الأسبق البروفيسور ليو واينر، الذي كان معروفاً بإجادته لعلم اللغات وإجادته لأكثر من 12 لغة عالمية.
وقد ذكر كولمبس أيضاً أنه رأى أقواماً يشبهون أهل الأندلس، واستغرب من انتشار الحجاب في أوساط نسائهم. وذكر مكتشف إسباني آخر هو هيرناندو كورتيز أن أولئك النسوة كن يرتدين البراقع التي كانت ترتديها نساء الأندلس. وذكر المكتشف الإسباني فيرناند كولومبس أنهن كن يرتدين ملابس تماثل ملابس نساء غرناطة، بينما كان أطفالهن يرتدون أيضاً أزياء أطفال غرناطة.
وبدهي أن أمثال أولئك المستضعفين الفارين بدينهم ودنياهم لا يرتجى لهم مستقبل آمن في ظل ما دهمهم بوصول حملات أعدائهم الإسبان إلى الدنيا الجديدة، فقد استؤصل وجودهم بعد ذلك بوقت قليل، وقد تم ذلك قبل أن يتم استئصال أصدقائهم الذين أَنِسُوا بهم في الغربة من الهنود الحمر.. فمن أولئك الأندلسيين المعذبين من استتيب وقبل اعتناق النصرانية على مستوى الظاهر على الأقل، ومنهم من أُعدم حرقاً بالنار، ومنهم من أعيد إلى إسبانيا ليحاكم هناك أمام محاكم التفتيش..فقد كان المطلوب كما تقول الوثائق: «ألا يوجد أي مجال لنشر الدين المحمدي» عن طريقهم في أمريكا.
وكما يقول لوي كاردياك فإن: «ديوان التحقيق لم يفتش فقط عن القضايا المتعلقة بالمسلمين، بل ما وراء كل أثر إسلامي لدى الفرد المسيحي» في العالم الجديد. فكان المقصود في الجملة منع تأثير المسلمين في عقائد النصارى الأمريكيين ولو من بعيد.
استرقاق الأفارقة المسلمين:
وبعد استقرار أوضاع المهاجرين الأوروبيين على نحو ما في أمريكا، اجتلبوا عن طريق تجارة الرقيق ملايين السود الإفريقيين إلى هناك، ثم واصلوا مهمة اقتلاع الإسلام ولغته العربية من أوساط أولئك المسترقين، فقد كان أكثر من نصف أولئك الأرقاء الأفارقة مسلمين انتزعوا من ممالك غرب إفريقيا التي كانت حواضر عامرة في ذلك الحين.
وقد صمد أكثر أفراد الجيل الأول من المسترقين على دينهم، إلا أن أهوال الرق وأحكامه المذلة المهينة التي بعثرت أسرهم وبددت وحداتهم الصغيرة بدأت تزعزع انتماء الأجيال اللاحقة منهم إلى دين الإسلام، وذلك إلى أن اندثر انتماؤهم إليه نهائياً مع مطالع القرن العشرين!
وقد حفظت لنا وثائق قليلة سيراً ذاتية مثيرة كتبت باللغة العربية لأفراد من الجيل الإفريقي المسلم الأول الذي اجتلب إلى أمريكا وحافظ على إيمانه، كما حفظت لنا وثائق أخرى قصص تحول ذراريهم عن دين الإسلام..وتحفظ سجلات أسماء السود الأمريكيين الحاليين - وغالبيتهم من غير المسلمين - أسماء عربية كثيرة في أوساطهم تشير إلى أصولهم الإسلامية العربية القديمة المندثرة.
- الكاتب:
مجلة البيان العدد 315 - التصنيف:
المركز الإعلامي