الهجرات العربية الأولى:
وفي نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين جاءت الهجرات العربية الأولى من سورية القديمة (تعادل لبنان وفلسطين وسورية والأردن في الجغرافيا الحالية) بأفواج كبيرة من الفارين من القهر السياسي التركي والراغبين في تحسين أوضاعهم المعيشية، وكانت غالبية أولئك المهاجرين من أشباه الأميين وأنصاف المتعلمين، وانخرط معظمهم في الأعمال الهامشية والتجارة بالمفرق، وتزوج الكثير منهم بالأمريكيات وأنجبوا منهن جيلاً هشاً واهناً لم يتزود بالمقومات الثقافية العربية الإسلامية التي تكفي لصموده في بوتقة الإذابة الثقافية الأمريكية، وكان نفوذ الأمهات أكبر من نفوذ الآباء على ذلك الجيل، فلم يكتب لأكثره أن يحافظ على تراث الآباء.
وتذكر بعض الأدبيات التي تناولت بالتحـليل أحوال ذلك الجيل، أن معـظم أفراده لم يهتموا بشيء يذكر من الشعائر الدينية، ولو على سبيل المحافظة التقليدية على المظاهر والأعراف؛ ولما اتخذ بعض المحللين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين من أداء صلاة الجمعة وصوم رمضان معيارين لأدنى درجة من درجات الالتزام الديني، كانت حصيلة ذلك الجيل منها ضعيفة للغاية، وبذلك ترشحوا بجدارة لقدر الذوبان.
ويذكر بعض من درسوا تلك المرحلة أن أبناء المسلمين فقدوا بسرعة ملكة التحدث باللغة العربية، واتخذوا أسماءً نصرانية اتقاء لمشاعر التمييز، وتزوجوا من غير المسلمات، وبخروج أولئك الأبناء عن نطاق أسرهم نسوا كل ما يتعلق بالعروبة أو الإسلام، وكانت المحصلة أن هُجرت المساجد القليلة التي بناها جيل الآباء، بحيث لم تجد من يغشاها في أواخر الأربعينيات.
ويذكر البروفيسور نبيل إبراهام الذي عاش منذ طفولته بديترويت، أن مساجد تلك الناحية أضحت أماكن للتسلية واللهو والتصدية، حيث استغلت ساحات المسجد الواسعة لتلك الأغراض.
وقد تاحَ لكاتب هذه السطور في عام 1989م أن يزور مسجدين قديمين بالشمال الأمريكي بيع أحدهما وتحول جزء منه إلى صالة رقص، وآخر خصصت إحدى قاعاته للرقص المختلط. وقد تمكن المسلمون بحمد الله من تطهير المسجد الثاني، واستخلاصه للصلاة، وتبقى عليهم أن يستعيدوا المسجد الأول عن طريق الشراء بعد أن باعه أحفاد المهاجرين الألبان تخلصاً منه بعد أن هجروا فرض الصلاة واتبعوا الشهوات.
هذا وقد استغلت جهات التنصير الأوضاع اللاهية بالمساجد، كما يذكر بعض من تابعوا تاريخ تلك الفترة، فدخلوها من أجل أن ينصروا المسلمين من داخلها، فكانت تلك ذروة المأساة أن يلاحق المسلمون في مساجدهم، وأن يُذوَّبوا من هناك في المصهر الأمريكي.
أمة الإسلام الضائعة في أمريكا:
وفي الأوان الذي شهد تساقط المسلمين المهاجرين وذوبانهم، كانت تنشأ في أمريكا حركات إسلامية داخلية وسط الأقلية السوداء التي خرجت لتوها من ربقة الرق، وتأسست عدة حركات لنشر الإسلام وسطهم، من أهمها: حركة المسلمين الموريسكيين التي تأسست بنواحي نيو آرك في عام 1913م، وقد تزعمها نوبل ودرو [درو]علي الذي قام بترجمة القرآن ترجمة زائفة أفسدت مراميه ومعانيه . ثم أفسد رسالته بادعائه النبوة زاعماً أنه رسول الله إلى السود مثلما كان محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى البيض!
ولم تخل الحركات الإسـلامية وسط السـود من مثل هذا التخليط، لا سيما الحركة التي حملت أسماء متعددة، أهمها: أمة الإسلام الضائعة، وقد تزعمها أليجا محمد في ديترويت، وقد تأسست في 1934م في رد فعل عنصري واضح يقول بتفوق الجنس الأسود على الأبيض، ويقصر اعتناق الرسالة الإسلامية عليه، حيث لا يجوز للبيض اعتناق الإسلام، ولا دخول معابد تلك النحلة العجيبة التي نزعت فيما بعد نحو العنف والتمرد وإنشاء مجتمع منعزل عن المجتمع الأمريكي الأبيض، وشوَّشت بتلك النـزعات الوخيمة على مضامين الرسالة الإسلامية ومستقبل الدعوة إليها، حيث بدا لكثير من الأمريكيين أن الإسلام دين عنصري خاص بالجنس الأسود.
ولم يقصِّر بعض غلاة قادة الحركة الإسلامية التي تدعى بالسوداء في مجهود تنفير البيض من الإسلام عندما أعلنوا أن إسلام البيض غير مقبول؛ لأنهم جنس ملعون عوقب ببياض اللون ومسخ خلقه بعد أن كان أسود سوياً يوم الخلق.
وحاول بعض الدعاة المسلمين الجسورين في صفوف البيض أن يتجاوزوا تلك العقبات من غير كثير توفيق، وأولهم هو الداعية محمد الكسندر رسل ويب،1847- 1916م، ذلك الرائد لم تدرس إسهاماته التاريخية حتى الآن.
ولد في نيويورك في عام 1847م لأب كان يعمل بنشر الصحف، ولما كان الوالد غنياً مقتدراً فقد بعث بابنه إلى المدارس ذات المستوى التعليمي والتثقيفي الراقي، وفيها طور الابن حسَّاً أدبياً واستولى عليه غرام القراءة والكتابة البحثية والفكرية والأدبية، ونشر عدداً وفيراً من المقالات والأبحاث والقصص القصيرة، وورث مهنة أبيه في نشر الصحف، وزاد عليها بشرائه صحيفة The Missouri Republican، وهي إحدى كبريات الصحف الأمريكية في ذلك الأوان، وظل يصدرها لمدة ثلاث سنوات، ورأس تحرير عدة صحف بعد ذلك في كل من سانت لويس وشيكاغو.
وفي عام 1886م عينه الرئيس الأمريكي كليفلاند قنصلاً بالبعثة الدبلوماسية الأمريكية بالفلبين، ولم يستغرقه العمل الدبلوماسي، إذ طغى عقله الفياض فشمل بتأملاته الأديان الشرقية التي تعرَّف عليها هناك، وانفعل بعقائد الدين الإسلامي، فخصَّها بمزيد من الدرس، وقرر أن يعتنق الإسلام، ولم يَرُدَّه عن ذلك لا منصبه الدبلوماسي الراقي ولا وَهْلَة قومه البيض واستغرابهم لما اعتراه، وخطا خطوة أخرى باتخاذه قراراً بالاستقالة من العمل الدبلوماسي ليتفرغ بالكلية لنشر العقائد الإسلامية في الولايات المتحدة.
وقد تزود لتلك المهمة بزاد فكري وعلمي واسع، وعقد حلقة اتصالات شملت مفكرين إسلاميين هنوداً مثل الشيخ بدر الدين عبد الله خير، ودعاة من الجزيرة العربية مثل الشيخ الحاج عبد الله عرب وهو تاجر من المدينة المنورة تبرع بثلث ثروته لصالح مشروع نشر الإسلام في أمريكا، وأنشأ محمد عقب رجوعه إلى بلاده منظمة خيرية دعوية سماها: The American Islamic Propaganda، وألف كتاباً لطيفاً من نحو سبعين صفحة أسماه: Islam in America كرسه بكامله لتعريف الأمريكيين بالإسلام ودحض الشبهات المنتشرة بينهم عن عقائد الإسلام وشرائعه.
ورغم قوة العارضة الفكرية لرسل، واقتداره الصحفي العالي، وكثرة أمواله، ومكانته الملحوظة في طبقات المجتمع الأمريكي؛ فقد كان حظ دعوته من النجاح ضئيلاً، ولم يتمـكن من تأسيس حركة إسلامية يعتد بها، ولا بناء مساجد أو مؤسسات تعليمية ثابتة، ولم يخلف أنصاراً أقوياء يحملون دعوته من بعده، وكل ما بقي من آثاره هو كتابه ذو القيمة التاريخية والأثر الريادي لتلك المحاولة الجسورة لاقتحام البيض مجال الدعوة الإسلامية.
مؤشرات التأسيس والتوطين:
وظل حظ الدعوات الإسلامية بكافة أطيافها من النجاح بسيطاً في المعترك الأمريكي إلى ستينيات القرن الماضي، حيث بدأ نمط الهجرات الإسلامية يأخذ في التحول الإيجابي، فأصبح الغالب على المهاجرين أنهم من أصحاب التعليم الأفضل، حتى بالمقارنة مع المستوى الأمريكي العام، ونال الكثيرون منهم مراكز مهنية وعملية مرموقة، وتمتعوا بمستويات اقتصادية ممتازة.. وقد كانت تلك هي الحقبة التي انبثق وتعالى فيها نور الصحوة الإسلامية في المشرق، فحمله أخيار المهاجرين معهم إلى المغرب.
وعلى أيدي هؤلاء بدأت مجهودات تأسيس وتوطين العمل الإسلامي بالمهجر، حيث ترسخ وجوده بعد مجاهدات كثيرة بمنظمات قوية مثل اتحاد الطلاب المسلمين The Muslim students Association of The United States & Canada، والحلقة الإسلامية لشمال أمريكا The Islamic Circle of North America، واتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين The American Muslim Social Scientists، واتحاد الأطباء المسلمين The Islamic Medical Association، ونشأت المدارس الإسلامية ذات الدوام الكامل من صف الحضانة إلى صفوف الدكتوراه.
وتوجد بأنحاء الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نحو ثلاثمائة مدرسة إسلامية للتعليم العام، وعدة مؤسسات للدراسات الجامعية، منها:الجامعة الأمريكية المفتوحة، والجامعة الإسلامية العالمية، وجامعة الإنترنت، والجامعة الإسلامية بشيكاغو، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية والإسلامية، كما أنشئت بعض المراكز البحثية المتقدمة المتخصصة في الفكر الإسلامي، أهمها: المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا.
وتضاعف عدد المساجد والمراكز الإسلامية، حيث بلغ نحواً من ألفي مسجد ومركز إسلامي.