لاباس بأن تمتلئ المواقع الإعلامية والصحف الأ دبية والمجلات الدورية، بالحديث عن مأساة الشعر العربي الفصيح، والتهجم على "عمود الشعر " والنيل منه عن عمد وروية ناهيك عن الأ بحاث المنظرة والفصول النقدية المأجورة والموتورة، للتشنيع على الشعر العربي الفصيح، بل وحتى التبشير بميلاد" القصيدة الحرة أو" القصيدة النثرية " على أنقاض القصيدة العمودية، لا باس بكل ذلك فكثرة السهام الموجهة تشير إلى أهمية البطل وقوة منعته واستبساله، فأقدام الشعر العربي الفصيح لن تزال راسخة في قمم جبال الثقافة العربية الاسلامية ( كما ثبتت في الراحتين الاصابع ) والمتحامل على الشعر لن يعدو صنيع الوعل:
" كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل "
وكيف لا ؟ وقضية تعاطي الشعر مسألة وجود وعنصر أساسي في تشكيل الهوية، ونزعة غائرة في أعماق الوجدان، درج عليها الصغير وشب على حبها الكبير وتوارثها الناس جيلا بعد جيل حتى جاء في الأثر " لن تدع العرب الشعر حتى تدع الابل الحنين " [أصله في صحيح مسلم ] .
وإذا كانت قضية تعاطي الشعر واستهلاكه أو إنشاده وإنشائه، قد أخذت حيزا لا بأس به ضمن مدونات النقاد وأسفار الادباء والمتذوقين قديما وحديثا، فإن ذلك لن يمنعها من الحصول على بطاقة تأهل للمناقشة والمدارسة اليوم، فسؤال الهوية مازال قائما لدى المجتمعات العربية والإسلامية، وإن أخذ أشكالا مختلفة وارتدى أقنعة ملونة، والقضية من المركزية بمكان في هذا السياق، بما يجعلها مهيأة لإثارة التفاعل والجدل مع معطيات اللحظة الراهنة، ضمن روافد تشكيل سمات اللحظة المقبلة .
ولن أطيل عليك أخي القارئ الاسترسال في هذه المقدمات، فلا أنا ممن تشرب فلسفة الكندي والفارابي، ولا أنت على الأرجح ذا بال ووقت لإعادة النظر فيها من جديد، فما خطب الشعر، وما مكانته في الثقافة العربية الاسلامية على مر العصور ؟
إن فداحة خطب الشعر الفصيح، تكمن في النكبة التي حلت به، والأزمة التي قضت عليه أكثر من مرة، ولولا أنه يموت ويبعث – قبل البعث – ويولد من أكفان الموتى وغول المقبرة وعنقاء العجائب، لما صدقنا بمثل هذا التناسخ والتناسل، و لا عليك من أن تصدق بمثل هذه الأعاجيب، فللخيال والأسطورة والشيطان الشعري دور جوهري في حياة هذا الكائن الابداعي العجيب، لم تقض عليه منطقية الفلسفة الأرسطية، ولا العلمية المعاصرة، وخير من يتحدث عن الشعر أهله وأصحابه الذين ألفوه وعرفوه وتفاعلوا معه وأحبوه، فلنستصحب كوكبة من هؤلاء الشعراء – على اختلاف عصورهم الأدبية ومشاربهم الفكرية، بل ومع اختلافنا مع بعضهم في خطه الفكري، فهمنا هنا أن نستشهد ونستصحب لا أن نصنف ونرتب:
• يتساءل الشاعر المعاصر " نزار قباني " عن مبررات وجود الشعر، إذا كان لا يخدم قضية ولا يعبر عن ذات ولا يدعو إلى فضيلة :
ما هو الشعر حين يصبح فأرا كسرة الخـبز همه والغـذاء
ما هو الشعر ان غـدا بهلـوانا يتسلى برقصه الخلـفاء ؟
إنه إذن حيوان تافه وطفيلي ردئ يرفضه الشاعر ويمقت وجوده:
أرفض الشعر مسرحا ملكيا من كراسيه يحرم البسطاء
نرفض الشعر أن يكون حصانا يمتطيه الطغاة والأقوياء
• والى شاعر آخر تستفحل المأساة لديه وتتعاظم عنده صورة الشعر، لتتضاءل أمامها القيم الجمالية الموجودة من حوله والمكاسب المادية التي أصبحت تتوخى منه، فينقطع عن الشعر ويكسر أقلامه
قالوا تركت الشعر قلت بداهة باب الدواعي والبواعث يغلق
مــات الكرام فلا كريم يرتجى منه النوال ولا مليح يعشق
• ومنه إلى شاعر شنقيطي مجيد، وعلم من أعلام اللغة والادب وعلوم الشرع " سيدي محمد بن الشيخ سيديا " رحمه الله، يدلي بشهادته بخصوص الازمة، ودهشته من هول الصدمة، في أسلوب بديع ونقاش ممتع، ودلالة على تمكنه من ناصية " السهل الممتنع " ولكن ببصيرة الناقد وتحليل اللوذعي المجرب :
يا معشر الشعراء هل من لوذعي يهدي حجاه لمقصد لم يبدع
إني هممت بأن أقول قصيدة بكرا فأعياني وجود المطلع
لكم اليد الطــولى على إن أنتم ألفيتموه ببقعة أو موضع
ولعل" مطلع القصيدة " وإن أبدى اهتمامه وجعل جدته من أبهى صور الابداع، فإن " صاحبنا " استخدمه وكنى به عن غيره من جدة الأغراض والموضوعات، فبدأ يعدد الموضوعات المألوفة وأن التجديد في الأغراض، يصعب الخروج عن دائرته:
وحذار من خلع العذار على الــــــــــديار ووقفة الزوار بين الأربع
وإفاضة العبرات في عرصاتها وتردد الزفرات بين الأضلع
وتذاكر السمار بالأخبـــار من أعصار دولـة قيصر أو تبع
فجميع هذا قد تداوله الورى حتى غدا ما فيه موضع إصبع
فغدا الشعر نوعا من التكرار والإجترار، لا ينبض بأي عرق للإبداع، أو جينات للتفرد، فاستحق قائله أن يقسو عليه سلطان الشعر وجلاد الشعراء بتشريع من صاحبنا ليتكئ فيه على عدالة الشعر وأحكام الحدود:
واليوم إما سارق مستوجب قطع اليدين وحسمها فليقـــطع
مهما رأي يوما سواما رتعا شن المغار على السوام الرتع
فكأنه في عدوه وعــدائه فعل السليك وسلمة بن الأكوع
• أما دور الشعر ففي أي زاوية نظرت من منظومة التراث العربي الإسلامي وقيمه الحضارية، ستجده منبعها الأول ومعينها الذي لا ينضب، فمن أي نماذج هذه الظاهرة نبدأ وبأي قول نستدل وشواهدها كالحصى كثرة ؟
- لعل ذلك ما يسهل المهمة من جانب، فلنأخذ بأيها ولتكن المقالة الشائعة: " الشعر ديوان العرب " والوثائق المروية عنها في حفظ أنسابها وأحسابها ومآثرها ...
- أم أن الشعر هو ذلك العقد الفريد الذي يعلق على أستار في شكل " المعلقات " الشعرية التي اشتق لها اسمها من تلك العملية إشارة إلى مكانتها لدى القوم، حتى لتعلق على رمز العبادة والقدسية
- أم ننظر إلى معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، حين يرسلون إلى ذوي الحضارات من الأمم السابقة، فإنهم يعمدون الى أعظم شيئ تبرع فيه تلك الحضارة، فيأتيهم نبي الله، بالسبق فيه والتحدي الصريح لهم بما يثبت معجزته وصدق رسالته، فأصحاب فرعون امتلكوا ناصية السحر، فأرسل الله اليهم موسى كليم الله وأعطاه عصى " تلقف ما يأفكون " وتلتهم ما يلقون، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله في العرب وأرسله للناس كافة، وكان العرب قد عظموا الكلمة وقدسوها حتى كادوا يعبدونها من دون الله، فجاءهم بمعجزة قولية تتلى وتقرأ" عجزوا أن يأتوا بآية من مثلها " فاعلن الوليد بن المغيرة أن القران ما هو بشعر ولا سجع، بل إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ... وما هو بقول بشر .
ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي نزهه الله عن قول الشعر ، اهتم بالشعر وجعله أمرا مرغوبا ومطلبا محببا في الإسلام كسلاح فعال في مواجهة العدو والدعوة إلى الله وشرع ذلك بالاستماع إليه وإجازته لـ " كعب بن مالك " وأمره لـ "حسان بن ثابت " في شان المشركين: " اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحوهم بالنبل "، [أخرجه أحمد] .
- ولعلي قد أطلت وإن لم أشبع موضوعي نقاشا، ولكن إثارة النقاش حولها ونفض الغبار عنها من جديد مطلب يسعدني أن أكون وفقت إليه، فما زال في فرسان الكلمة وهواة البيان من أبناء الأمة، من فيه الكفاءة والكفاية، لأن يستفيد من الموضوع، ويكمل ما نقص ويزيد، واذا المت بك نائبة " نبه لها عمرا ثم نم " .
- الكاتب:
الشيخ ولد أحمدو - التصنيف:
المركز الإعلامي