إن القراءات المتدبرة لسور القرآن العظيم تعطي صنوفا متعددة الفهم لهذا النص الرباني المعجز، ذلك أن هذه الوحدات التوقيفية لتقسيم القرآن؛ وأعني بها سور القرآن الكريم التي تنتظم في 114 سورة تقسم إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعددة؛ فباعتبار طولها وقصرها تقسم إلى سور طوال وسور المئين والمثاني والمفصل، وباعتبار مكان نزولها تقسم إلى مكية ومدنية، إلا أن نظرة تدبرية معمقة لمعاني ومقاصد هذه السور الكريمة قد تخرج بتقسيمات وتصنيفات موضوعية جديدة لمعاني هذه السور؛ وسنتناول في هذا التحليل سورة (ص)، وتسمى أيضا (سورة داود عليه السلام) هذه السورة المكية بإجماع من المفسرين والتي تتكون من 88 آية تعالج كغيرها من السور المكية موضوعي البعث والجزاء؛ واشتملت على مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم وبيان حالهم يوم القيامة، مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإبليس، وتذكير المشركين بأمثالهم من الأمم السابقة.
وفيها سلسلة متعددة الحلقات من قصص الأنبياء - دون ذكر لأقوامهم - في معرض التسلية والتذكير والتنويه، وقد تخللتها مواعظ وتلقينات بليغة وتقريرات مهمة عن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته للكون والزمان، وفصول السورة وآياتها مترابطة منسجمة ومتوازنة مما يدلّ على وحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول.
ومناسبة هذه السورة من خلال النسق الترتيبي لسور القرآن الكريم يلوح في أنها جاءت كالمتممة للسورة التي قبلها؛ سورة الصافات من وجهين اثنين:
الأول: أنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان وأيوب عليهم السلام .
الثاني: أنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 168، 169]، وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه .
وقد نبه ابن القيم رحمه الله وهو من العارفين بأسرار القرآن ولطائف التنزيل إلى المقاصد الدقيقة لموضوعات هذه السورة الكريمة في وقفة تدبرية رائعة؛ ملمحا لما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات المتعددة في لفتة خاطفة، إلا أن المتدبر بروية يلحظ ازدحام صور الخصومة ونماذجها في هذه السورة وأسلوب العلاج السلس الذي عالج به النهج القرآني الحكيم هذه المواقف الشرسة؛ ويمكننا باختصار تحليل واختزال هذه المواقف في مشاهد ثلاث:
المشهد الأول: خصومة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وإذا ما تناولنا هذه المواقف بالتحليل فسنجد أن السورة بدأت بذكر خصومة كفار مكة للنبي صلى الله عليهوسلم وقد عالج صدر السورة شقاق الكفار هذا في ستة عشر آية؛ الآيات (1-16)؛ فاستعرضت الآيات الكريمة حجج الكفار التي تذرعوا بها لرفض رسالة التوحيد ووحي السماء ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تعرضت لتفنيد هذه الحجج الواحدة تلو الأخرى باستخدام أرقى أساليب الجدل العقلي والإعجاز بالمنطق الواقعي والتاريخي .
المشهد الثاني: اقتحام الخصمين محراب داود عليه السلام: دلفت الآيات بعد علاج خصومات الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم في استطراد تساؤلي لطيف يذكر النبي صلى اللهعليه وسلم بنبأ الخصم اللَّذَين تسورا المحراب على داود عليه السلام واستعرضت القصة بأسلوب بديع يَستنبِط العبر والعظات من هذه القصة دون الخوض في تفاصيل تشغل عن المغزى أو تصرف عن المقصد ثم اختتمت المخاصمة بمواعظ بليغة في التحذير من اتباع الهوى في الحكم وفصل الخصومات والتذكير بالعواقب المردية المترتبة على ذلك، وفي ذات السياق تعرضت الآيات لابتلاء الله لعبديه سليمان وأيوب كما داود عليهم السلام وصبرهم على الابتلاء وإنابتهم وأوبتهم إلى الله وقبوله منهم وتفريجه عليهم ليختم لهم بحسن العاقبة كما هي حال المتقين دوما .
المشهد الثالث: ينتقل من جدل وخصومات الدنيا إلى خصومات ما بعد البعث والجزاء ويكشف عن ما تؤول إليه الحال بعد استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين فريق الجنة وفريق السعير حيث يبدأ التلاعن والخصام في جهنم بين أفواج المجرمين عند إيراد بعضهم على بعض وما يصيرون إليه من سوء صحبة بعضهم لبعض رغم سرمدية إقامتهم، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب، وتُذيِّل الآيات بيانها بالتنويه إلى تجرد النبي صلى الله عليه وسلم من وسائل المعرفة غير الربانية؛ وأنه لولا تأييده بوحي السماء لما كانت عنده علوم النشأة الأولى وأخبار خصومات الملء الأعلى قبل خلق آدم، ولما حصلت عنده المعرفة بأحداث المستقبل البعيد وما يصير إليه البشر بعد فصل الجزاء وقطع النزاع وخصوصا أهل النار الذين تؤصد عليهم أبواب جهنم نسأل الله السلامة والعافية بمنه وكرمه .
وعموما فقد تميزت الخصومة القرآنية في هذه السورة خصوصا وفي القرآن عموما بالتنوع، فقد حكى لنا القرآن الكريم عن قصص الأولين من الأنبياء وغيرهم، وفصل ما جرى بينهم من محاورات ومجادلات عبّرت عن خصومة بين طرفين مثلت الخصومة السرمدية بين الحق والباطل، كما اشتملت على دحض حجج الباطل ودمغه وزهقه والانتصار للحق وضمان الغلبة له وحسن العاقبة لعباد الله المتقين .
- الكاتب:
د.محفوظ ولد خيري - التصنيف:
ثقافة و فكر