الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خنفشار.. والمفتي الماجن

خنفشار.. والمفتي الماجن

خنفشار.. والمفتي الماجن

قد تعجبُ أخي من عنوان المقال، ولكن عجبك سيزول إن شاء الله بعد قراءة المقال كاملاً، ويبقى السؤال الأهم عن سبب اختيار الموضوع؟!.

بدايةً لا يخلو مؤلفٌ في أصولِ الفقهِ سواء المطول، أو المتوسط، أو المختصر منها إلا ويفرد باباً عن الفتوى، ويعرج على شروط المفتي وصفاته وآدابه، وأنه موقع عن رب العالمين، قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/36): "وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكرُ فضله، ولا يُجهلُ قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟".ا.هـ.

السؤال: مَنْ هو المفتي الماجن؟
تُعرفُه بعضُ كُتب الفقه في مذهب الأحناف: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ أَيْ: الْحِيَلَ الْمُؤَدِّيَةَ إلَى الضَّرَرِ، وَاَلَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ، وَلَا يُبَالِي بِتَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ ". ا. هـ.

لننظر حولنا، ونُنزل هذا التعريف على أناسٍ قاموا بحيلٍ، وطرحوا شبهاتٍ طبلت لها وسائل الإعلام، ونفخت فيها، وكالت لهم المدائح كما هي عادة الإعلام، وقدمتهم على أنهم فلتات زمانهم!، وكانت الصدمة والصفعة أنه عند مناقشتهم اتضح أنهم لا يملكون أبسط آليات وأصول الاستدلال، بل وصل الحال بأحدهم أن طعن في أحاديث في أصح كتب أهل السنة، إلى جانب لغة التعالم، والتشبع بما لم يعط، وصدق بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -: [المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور](متفق عليه)، وقال قتادة: "من حدّث قبل حينه، افتضح في حينه".

في تراثنا الفقهي تفردُ كتب الفقه في المذاهب الفقهية المعتبرة كتاباً أو باباً أو فصلاً يطلق عليه "الحَجْر"، وكتب الأحناف أشارت إلى الموقف من "المفتي الماجن" من جهة الحَجْر عليه للمصلحة العامة.

جاء في "الموسوعة الفقهية" تحت مادة " حَجْر " (17/101): " الْحَجْرُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى فَرْضِ الْحَجْرِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُمْ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ.

أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ بِقَصْدِ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ...، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْسِدٌ لِلْأَدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلْأَبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلْأَمْوَالِ. فَمَنْعُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لَاحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ". ا. هـ.

بل ابن عابدين في حاشيته (6/401) أشار إلى كف ولي الأمر للمفتي الماجن قائلا: "... عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ يَرَى الْحَجْرَ إذْا عَمَّ الضَّرَرُ كَمَا فِي الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ... ". ا. هـ.

ولذلك من مهام ولي أمر المسلمين تنصيب المفتين المؤهلين، فلا يصدر من ليس أهلاً كما هو حال من لمعه الإعلام، وأضفوا عليهم ألقاباً لم ولن يحلموا بها.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: "يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ، وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إنْ عَادَ"، قَالَ: "وَطَرِيقُ الْإِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ، وَيَعْتَمِدَ إخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ".

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "مَنْ أَفْتَى وَلَيْسَ بِأَهْلٍ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا"، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَوْلُهُ: "يَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ، فَهُو (يعني المفتي الماجن) بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَا يَعْلَمُ الطَّرِيقَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ أَعْمَى، بَلْ أَسْوَأُ حَالًا، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ الطِّبَّ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ؟".

إن من أعجب ما سمعتُ وقرأتُ لأحدهم أنه استدل بحديثٍ ثم تناقض قائلاً إن العرف عندنا يمنعه، فلا يجوز ذلك لوجود العرف، فعدّ العرف قاضياً على النص، وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، فالنص له قدسيته ومكانته فلا يقدم العُرف عليه.

وقد فصل الإمام الشاطبي في " الموافقات " (2/283 284) بطلان جعل العرف قاضياً على النص قائلاً: "العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا، أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلاً وتركًا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.

فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفى الأمر بإزالة النجاسات.. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها، وإن اختلفت آراء المكلفين بها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلاً: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه! أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه!.. أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نَسخاً للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل". ا. هـ.

ختاماً:
ينبغي أن نحذر ونحذِّر من المتعالمين الذين يحاول الإعلام تلميعهم، وفرضهم بالقوة على المجتمع على حساب العلماء الراسخين، والمرجعية الشرعية التي عينها ولي الأمر.

المتعالمون الذين يلمعهم الإعلام ذكروني بقصة: يحكى أن رجلا كان مولعاً بحب التعالم، فكان لا يُسأل سؤالاً إلا أجاب عنه، ولا يُثار موضوع إلا دلا فيه بدلوه. فقال أصحابه يوماً: والله إن هذا الرجل إما عالم حقاً أو أنه يستغل جهلنا، فاتفقوا أن يذكر كلٌّ منهم حرفاً، ويسألوه عن معنى الكلمة الناتجة، فنتجت كلمة "خنفشار".
فلمّا قدم عليهم قالوا: يا أبا فلان، بحثنا عن معنى الخنفشار فلم نجد جواباً، قال: وصلتم، الخنفشار نبات يزرع في أرض اليمن، يدهن به ضرع الناقة، فيحبس اللبن. قال الشاعر:
لقد عقدت محبتكم فؤادي *** كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال - صلى الله عليه وسلم -..
فهبَّ إليه أصحابه وأسكتوه، وقالوا: يا عدوّ نفسه، كذبت على لسان العرب، وتريد أن تكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد