في أيِّ عصر من عصور التاريخ، كانت الديانة المسيحية مبعث العلم ومطلع شمس المدنية والعمران؟ أفي العصر الذي كانت تدور فيه رحى الحرب الدموية بين الأرثوذكس والكاثوليكية تارة، وبين الكاثوليك والبروتستانت تارة أخرى بصورة وحشية فظيعة اسودَّ لها لباس الإنسانية، وبكت الأرض منها والسماء؟ أم في العصر الذي كانت إرادة المسيحي فيه صورة من إرادة الكاهن الجاهل؛ فلا يعلم إلا ما يعلِّمه إياه، ولا يفهم إلا ما يلقيه إليه، فما كان يترك له الحرية حتى في الحكم على نفسه بكفر أو إيمان، وبهيمية أو إنسانية، فيكاد يتخيل أنَّ له ذَنَبًا متحركًا وخيشومًا طويلًا، وأنَّه يمشي على أربع إذا قال له الكاهن: أنت كلب، أو قال له: إنَّك لست بإنسان؟
أم في العصر الذي كان يعتقد فيه المسيحي أنَّ دخول الجمل في سَمِّ الخياط أقرب من دخول الغني في ملكوت السموات؟ أم في العصر الذي كان يحرِّم فيه الكاهن الأعظم على المسيحي أن ينظر في كتاب غير الكتاب المقدس، وأن يتلقَّى علمًا في مدرسة غير مدرسة الكنيسة؟ أم في العصر الذي ظهرت فيه النجمة ذات الذنب فذعر لرؤيتها المسيحيون ورفعوا إلى البابا عرائض الشكوى فطردها من الجو فولت الأدبار؟!
أم في العصر الذي أهدى فيه الرشيد العباسي الساعة الدقاقة إلى الملك شارلمان فلما رآها الشعب المسيحي، وسمع صوتها، فرَّ من وجهها ظنًّا منه أنَّها تشتمل على الجنِّ والشياطين؟! أم في العصر الذي أُلِّفت فيه محكمة التفتيش لمحاكمة المتهمين بمزاولة العلوم، فحكمت في وقت قصير على ثلاثمائة وأربعين ألفًا بالقتل حرقًا أو صلبًا؟ أم في العصر الذي أحرق فيه الشعب المسيحي فتاة حسناء بعدما كشط لحمها وعرق عظمها؛ لأنَّها تشتغل بعلوم الرياضة والحكمة؟
هذا الذي نعرفه أيها الفيلسوف التاريخي من تاريخ العلم والعرفان والمدنية والعمران في العصور المسيحية، ولا نعلم أكانت تلك المسيحية التي كان هذا شأنها، وهذا مبلغ سعة صدرها صحيحة في نظرك أم باطلة، وإنما نريد أن نستدلَّ بالمسيحيين على المسيحية، وإن لم نقف على حقيقتها، كما فعلت أنت في استدلالك بالمسلمين على الإسلام وإن لم تعرف حقيقته وجوهره، على أنَّ استدلالنا صحيح واستدلالك باطل، فإنَّ المدنية الحديثة ما دخلت أوربا إلا بعد أن زحزحت المسيحية منها لتحتل محلها كالماء الذي لا يدخل الكأس إلا بعد أن يطرد منها الهواء؛ لأنَّه لا يتسع لهما، فإن كان قد بقي أثر من آثار المسيحية اليوم في أكواخ بعض العامة في أوربا، فما بقي إلا بعد أن عفت عنه المدنية، ورضيت بالإبقاء عليه، لا باعتبار أنَّه دين يجب إجلاله وإعظامه، بل باعتبار أنَّه زاجر من الزواجر النفسية التي تستعين الحكومات بها وبقوتها على كسر شِرَّة النفوس الجاهلة، فلا علاقة بين المسيحية والتمدين الغربي من حيث يستدل به عليها، أو باعتبار أنَّه أثر من آثارها، ونتيجة من نتائجها، ولو كان بينه وبينها علاقة ما افترقت عنه خمسة عشر قرنًا، كانت فيها أوربا وراء ما يتصوره العقل من الهمجية والوحشية والجهل، فما نفعتها مسيحيتها، ولا أغنى عنها كهنوتها.
أما المدنية الإسلامية فإنها طلعت مع الإسلام في سماء واحدة من مطلع واحد في وقت واحد، ثم سارت إلى جانبه كتفًا لكتف، ما ينكر من أمرها، ولا تنكر من أمره شيئًا، فالمتعبد في مسجده، والفقيه في درسه، والمعرب في خزانة كتبه، والرياضي في مدرسته، والكيمائي في معمله، والقاضي في محكمته، والخطيب في محفله، والفلكي أمام إسطرلابه، والكاتب بين محابره وأوراقه، إخوة متصافون، وأصدقاء متحابون، لا يختصمون ولا يقتتلون، ولا يكفر بعضهم بعضًا، ولا يبغي أحد منهم على أحد.
أيها الفيلسوف التاريخي: إن كان لابد من الاستدلال بالأثر على المؤثر فالمدنية الغربية اليوم أثر من آثار الإسلام بالأمس، والانحطاط الإسلامي اليوم ضربة من ضربات المسيحية الأولى. وإليك البيان:
جاء الإسلام يحمل للنوع البشري جميع ما يحتاج إليه في معاده ومعاشه، ودنياه وآخرته، وما يفيده منفردًا، وما ينفعه مجتمعًا.
هذَّب عقيدته بعدما أفسدها الشرك بالله والإسفاف إلى عبادة التماثيل والأوثان، وإحناء الرؤوس بين أيدي رؤساء الأديان، وأرشده إلى الإيمان بألوهية إله واحد، لا يشرك به شيئًا، ثم أرشده إلى تسريح عقله ونظره في ملكوت السموات والأرض؛ ليقف على حقائق الكون وطبائعه، وليزداد إيمانًا بوجود الإله وقدرته وكمال تدبيره، ليكون اقتناعه بذلك اقتناعًا نفسيًّا قلبيًّا، فلا يكون آلة صماء، في يد الأهواء تفعل به ما تشاء.
ثم أرشده إلى مواقف تذكِّره بربه وتنبِّهه من غفلته، وتطرد الشرور والخواطر السيئة عن نفسه، كلما ابتغت إليها سبيلًا، وهي مواقف العبادات ثم أطلق له الحرية في القول والعمل... وعرَّفه قيمة نفسه بعدما كان يجهلها، وعلمه أنَّ الإنسانية لا فرق بين فقيرها وغنيها ووضيعها ورفيعها وضعيفها وقويها، وأنَّ الملك والسوقة، والشريف الهاشمي، والعبد الزنجي، أمام الله والحقِّ سواء، وأنَّ الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، والنفع والضرَّ، والثواب والعقاب، والرحمة والغفران، بيد الله وحده لا ينازعه منازع، ولا يملكها عليه أحد من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين.
ثم نظر في أخلاقه فأرشده إلى محاسنها، ونفَّره من مساوئها حتى علَّمه آداب الأكل والشرب، والنوم والمشي، والجلوس والكلام، والتحية والسلام ثم دخل معه منزله، فعلَّمه كيف يبرُّ الابن أباه، ويرحم الوالد ولده. ويعطف الأخ على أخيه، ويكرم الزوج زوجته، وتطيع الزوجة زوجها، وكيف يكون التراحم والتواصل بين الأقرباء وذوي الرحم.
ثم نظر في شؤونه الاجتماعية، ففرض عليه الزكاة التي لو جُمعت ووُضعت في مواضعها المشروعة لما كان في الدنيا بائس ولا فقير، وندبه إلى الصدقة ومساعدة الأقوياء للضعفاء، وعطف الأغنياء على الفقراء.
ثم شرع له الشرائع للمعاملة الدنيوية، ووضع له قوانين البيع والشراء، والرهن والهبة والقرض والتجارة والإجارة والمزارعة والوقف والوصية والميراث؛ ليعرف كلُّ إنسان حقَّه، فلا يغبن أحد أحدًا.
ثم قرَّر له عقوبات دنيوية، تمنعه أن يبغي بعضه على بعض بشتم أو سبٍّ أو قتل أو سرقة أو انتهاك حرمة أو مجاهرة بمعصية أو شروع في فتنة أو خروج على أمير أو سلطان.
ثم نظر في شؤونه السياسية، فقرَّر الخلافات وشروطها، والقضاء وصفاته، والإمارة وحدودها، وقرَّر كيف يعامل المسلمون مخالفيهم في الدين البعيدين عنهم والنازحين إليهم، وذكر مواطن القتال معهم، ومواضع المسالمة لهم.
وجملة القول: إنَّ الدين الإسلامي ما غادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا ترك الإنسان يمشي في ميدان هذه الحياة خطوة من مهده إلى لحده، إلا مدَّ يده إليه، وأنار له مواقع أقدامه، وأرشده إلى سواء السبيل.
طلعت هذه الشمس المشرقة في سماء العرب فملأت الكون نورًا وإشراقًا، واختلف الناس في شأنها ما بين معترف بها، ومنكر لوجودها، ولكنهم كانوا جميعًا سواء في الانتفاع بنورها، والاستنارة بضيائها، على تفاوت في تلك الاستنارة، وتنوُّع في ذلك الانتفاع.
طلعت هذه الشمس المشرقة فتمشت أشعتها البيضاء إلى أوربا من طريق أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا، فأبصرها عدد قليل من أذكياء الغربيين، فانتبهوا من رقدتهم، واستيقظوا من سباتهم، ورأوا من جمال المذاهب الإسلامية، وشرائع الكون ونظامه، وقواعد الحرية والمساواة ما لفت نظرهم إلى المقابلة بين المجتمع الغربي الخامل الضعيف، والمجتمع الشرقي النابه اليقظ، فقالوا: أيمكن أن يعيش الإنسان حرًّا على ظهر المسكونة، لا يستعبده ملك، ولا يسرقه كاهن؟ أيمكن أن يبيت المرء ليلة واحدة في حياته هادئًا في مضجعه، مطمئنًا في مرقده، لا يروعه دولاب العذاب، ولا سيف الجلاد؟ أيمكن أن تملك النفس حريتها في النظر إلى نظام العالم وطبائعه ودراسة العلوم الكونية ومزاولتها؟ أيمكن أن يطلع فجر المدنية على هذا المجتمع الغربي، فيمحو ظلمته التي طال عهدنا بها حتى غشيت أبصارنا، فما يكاد يرى بعضنا بعضًا؟
كانت هذه الخواطر المترددة في عقول أولئك الأذكياء هي الخطوة الأولى التي مشتها أوربا في طريق المدنية والعمران، بفضل الإسلام وشرائعه، التي عرفها هؤلاء الأفراد من مخالطة المسلمين في أوربا، ومطالعة كتبهم، ومناظرة حضارتهم ومدنيتهم، ثم أخذوا يعلمونها للناس سرًّا، ويبثونها في نفوس تلاميذهم شيئًا فشيئًا، ويلقون في سبيل نشرها عناء شديدًا، واستمرَّ هذا النزاع بين العلم والجهل قرونًا عدة، حتى انتهى أمره بالثورة الفرنسية، فكانت هي القضاء الأخير على الوحشية السالفة والهمجية القديمة.
أيها الفيلسوف التاريخي: إنَّك لا بدَّ تعلم ذلك حقَّ العلم؛ لأنه أقلُّ ما يجب على المؤرخ أن يعلمه، كما تعلم أنَّ المدنية الإسلامية إذا وسعت غيرها فأحرى بها أن تسع نفسها، ولكن التعصب الديني قد بلغ من نفسك مبلغه، فما كفاك أن أنكرت فضل صاحب الفضل عليك، حتى أنكر عليه فضله في نفسه!
لا حاجة بي أن أشرح لك المدنية الإسلامية أو أسرد لك أسماء علمائها وحكمائها ومؤلفاتهم في الطبيعة والكيمياء والفلك والنبات والحيوان والمعادن والطب والحكمة والأخلاق والعمران، أو أعدِّد لك مدارسها ومجامعها ومراصدها في الشرق والغرب، أو أصف لك مدنها الزاهرة، وأمصارها الزاخرة، وسعادتها وهناءتها، وعزتها وسطوتها، فأنت تعرف ذلك كلَّه إن كنت مؤرخًا كما تقول.
غير أني لا أنكر ما لحق بالمسلمين في هذه القرون الأخيرة من الضعف والفتور، وما أصاب جامعتهم من الوهن والانحلال، ولكن ليس السبب ذلك الإسلام كما نتوهم، بل المسيحية التي سرت عدواها إليهم على أيدي قوم من المسيحيين أو أشباه المسيحيين، لبسوا لباس الإسلام، وتزيُّوا بزيِّه، ودخلوا بلاده، وتمكنوا من نفوس ملوكه الضعفاء، وأمرائه الجهلاء، فأمدوهم بشيء من السطوة والقوة، تمكنوا به من نشر مذاهبهم السقيمة، وعقائدهم الخرافية بين المسلمين حتى أفسدوا عليهم مذاهبهم وعقائدهم، وأوقعوا الفتنة فيهم، وحالوا بينهم وبين الاستمداد من روح الإسلام وقوته، فكان من أمرهم بعد ذلك ما كانفي أيِّ عصر من عصور التاريخ، كانت الديانة المسيحية مبعث العلم ومطلع شمس المدنية والعمران؟ أفي العصر الذي كانت تدور فيه رحى الحرب الدموية بين الأرثوذكس والكاثوليكية تارة، وبين الكاثوليك والبروتستانت تارة أخرى بصورة وحشية فظيعة اسودَّ لها لباس الإنسانية، وبكت الأرض منها والسماء؟ أم في العصر الذي كانت إرادة المسيحي فيه صورة من إرادة الكاهن الجاهل؛ فلا يعلم إلا ما يعلِّمه إياه، ولا يفهم إلا ما يلقيه إليه، فما كان يترك له الحرية حتى في الحكم على نفسه بكفر أو إيمان، وبهيمية أو إنسانية، فيكاد يتخيل أنَّ له ذَنَبًا متحركًا وخيشومًا طويلًا، وأنَّه يمشي على أربع إذا قال له الكاهن: أنت كلب، أو قال له: إنَّك لست بإنسان؟
أم في العصر الذي كان يعتقد فيه المسيحي أنَّ دخول الجمل في سَمِّ الخياط أقرب من دخول الغني في ملكوت السموات؟ أم في العصر الذي كان يحرِّم فيه الكاهن الأعظم على المسيحي أن ينظر في كتاب غير الكتاب المقدس، وأن يتلقَّى علمًا في مدرسة غير مدرسة الكنيسة؟ أم في العصر الذي ظهرت فيه النجمة ذات الذنب فذعر لرؤيتها المسيحيون ورفعوا إلى البابا عرائض الشكوى فطردها من الجو فولت الأدبار؟!
أيها الفيلسوف التاريخي: إنَّك لا بدَّ تعلم ذلك حقَّ العلم؛ لأنه أقلُّ ما يجب على المؤرخ أن يعلمه، كما تعلم أنَّ المدنية الإسلامية إذا وسعت غيرها فأحرى بها أن تسع نفسها، ولكن التعصب الديني قد بلغ من نفسك مبلغه، فما كفاك أن أنكرت فضل صاحب الفضل عليك، حتى أنكر عليه فضله في نفسه!
غير أني لا أنكر ما لحق بالمسلمين في هذه القرون الأخيرة من الضعف والفتور، وما أصاب جامعتهم من الوهن والانحلال، ولكن ليس السبب ذلك الإسلام كما نتوهم، بل المسيحية التي سرت عدواها إليهم على أيدي قوم من المسيحيين أو أشباه المسيحيين، لبسوا لباس الإسلام، وتزيُّوا بزيِّه، ودخلوا بلاده، وتمكنوا من نفوس ملوكه الضعفاء، وأمرائه الجهلاء، فأمدوهم بشيء من السطوة والقوة، تمكنوا به من نشر مذاهبهم السقيمة، وعقائدهم الخرافية بين المسلمين حتى أفسدوا عليهم مذاهبهم وعقائدهم، وأوقعوا الفتنة فيهم، وحالوا بينهم وبين الاستمداد من روح الإسلام وقوته، فكان من أمرهم بعد ذلك ما كان.
- الكاتب:
مصطفى لطفي المنفلوطي - التصنيف:
تاريخ و حضارة