إذا قام العالم بكل أعمال الخير، واتصف بكل بجميل الخِلال فلا شك أنه يكون عالمًا متميزًا جليلاً، لكن هذا لا يكفي لتنمية وتطوير حركة العلم، ولا لرِفعة ونهضة الأمة، إنما يحتاج العلم وتحتاج الأمة إلى تضافر الجهود، وتفاعل الطاقات، ولا يكون هذا إلا حين يضع العالِم يده في يد غيره من العلماء، وكذلك بأن ينظر بصورة عملية وجدية في جهود السابقين والمعاصرين من أقرانه في العلم.
الفرق العلمية .. العمل في فريق:
ووضع اليد في يد الآخرين هو ما يمكن أن نسميه "العمل في فريق" " الفرق العلمية" وهذا ولا شك يحقق أهدافًا مهمة، مثل: الإبداع، وسرعة الإنجاز، وزيادة الإنتاج، ودقة الإتقان، وبروز الكفاءة العالية، كما أنه يُساعد على خَلْق روح التطوير، وصناعة مادة التقدم والحضارة.
وذلك كله يفتقده العمل الفردي، والذي تقوم عليه -للأسف- كثيرٌ من المؤسسات في الأمة الإسلامية، إذ لم يوجد بين الشركات الكثيرة التي سجَّلت براءات اختراع شركة واحدة إسلامية، وكانت براءات الاختراع عندنا -على قلتها- إنما هي من نصيب الأفراد فقط!!
وقد أدرك علماء المسلمين في تاريخنا تلك القيمة، فأثْروا الحياة العلمية في جميع المجالات، واستطاعوا أن يصنعوا نهضة الأمة وحضارتها.
أبو حنيفة النعمان:
وقد تجلَّت قيمة "العمل في فريق" -على سبيل المثال- في ظهور مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله؛ فقد كان أبو حنيفة يحضُرُ -كعادة العلماء المسلمين في تحصيلهم للعلم- حلقة حماد بن أبي سليمان، وبعد موت شيخه حماد آلت رياسة الحلقة إليه، وقد التف حوله تلاميذه ينهلون من غزير علمه.
إلا أنَّ أبا حنيفة كانت له طريقة خاصة حين تطرح المسائل والقضايا المختلفة في حلقته؛ فلم يكن يتصدى لها هو في البداية، وإنما كان يطرحها على تلاميذه أو فريقه -إن جاز التعبير- أولاً، ثم يُدلي كل منهم برأيه فيها، ويقوم أبو حنيفة بجمع كل هذه الآراء ومناقشتها، ثم يصوِّب أخيرًا ما ارتآه صوابًا. ليحصل الإبداع والإثراء، ومن ثَمَّ الوصول إلى أفضل الحلول.
أبناء موسى بن شاكر:
ولم يكن هذا خاصًا فقط بالعلوم الشرعية، إنما وجدناه كذلك في العلوم الحياتية. ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما تمَّ في زمان الخليفة العباسي المأمون (ت: 218 هـ=833م)؛ حيث قام العلماء بأول محاولة لقياس أبعاد الكرة الأرضية، والذي يهمنا هنا هو أنه قام بذلك عن طريق فريقين من العلماء، وكان أحد هذين الفريقين:" بنو موسى بن شاكر "!!
وفي ذلك يقول المستشرق (نللينو): "إن قياس العرب (المسلمين) للكرة الأرضية هو أول قياس حقيقي أُجرِيَ كله مباشرة، مع كل ما تقتضيه تلك المسافة الطويلة وهذا الفريق الكبير من العلماء والمساحين العرب؛ فهو يُعدُّ من أعمال العرب المأثورة وأمجادهم العلمية".
أما أبناء موسى بن شاكر فكانوا وحدهم فريقًا متكاملاً، ولا نكون مغالين إذا قلنا بأنهم أول فريق علمي ظهر في العالم !! وفي كتابهم المشهور "الحيل" في علم الهندسة والميكانيكا، اتضحت روح الفريق بشكل مباشر، وتجسَّد فيه مبدأ العمل الجماعي القائم على المشاركة والتعاون، حتى إنه ليصادفك كثيرًا عبارات مثل: "نريد أن نجد. . "، "وذلك ما أردناه .. "، كما تجد أن أغلب أفعال المضارعة هي مثل: "نبين"، "نقول"، "نريد" .. وهكذا.
إننا لا نشك في أن هذه الجماعية هي التي كانت سببًا في نبوغهم وتقديمهم للأمة وللبشرية ما لم يضارعهم فيه أحدٌ في زمانهم، يقول عنهم ابن خلكان: ".. الإخوة الثلاثة الذين ينسب إليهم حيل بن موسى، وهم مشهورون بها .. وكانت لهم همة عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل، وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، وأحضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة .."!!
بين ابن رشد وابن زهر:
ومن عجائب الحكمة التي ظهرت أيضًا بفضل التعاون والعمل في فريق، ما كان بين ابن رشد وابن زهر (أبي مروان بن زهر).
فحين ألَّف ابن رشد كتابه "الكُلِّيات"، والتي تعود شهرته في الطب إليه، وقد جمع فيه النظريات العامة لعلم الطب ، والمباديء الأساسية لعلم الأمراض -حين ألَّف كتابه هذا، رأى أنه في حاجة إلى كتاب آخر يكمله، ويكون مقصورًا على الجزئيات؛ لتكون جملة كتابيهما -كما يذكر ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء- ككتاب كامل في صناعة الطب، ومن ثَمَّ قصد ابنُ رشد أبا زهر (الطبيب الأندلسي الشهير) وكانت بينهما مودة، ورجاه أن يقوم بهذه المهمة.
وقد تم له ما أراد، وألف ابن زهر أهم كتبه وهو: "التيسير في المداواة والتدبير" وهو موسوعة طبية عظيمة، وفيه تظهر براعة ابن زهر وتضلُّعه في الصناعة الطبية!!
ولذلك تجد ابن رشد يقول في آخر كتابه "الكليات": "فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء عَرَض عرض من الأعراض الداخلة على عضو من الأعضاء، وهذا وإن لم يكن ضروريًّا؛ لأنه منطوٍ بالقوة فيما سلف من الأقاويل الكُلية ففيه تتميمٌ ما وارتياض؛ لأنَّا ننزل فيها إلى علاجات الأمراض بحسب عضو عضو، وهي الطريقة التي سلكها أصحاب الكنانيش (الكتب)، حتى نجمع في أقاويلنا هذه إلى الأشياء الكلية الأمور الجزئية؛ فإن هذه الصناعة أحق صناعة ينزل فيها إلى الأمور الجزئية ما أمكن، إلا أنا نؤخِّر هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغًا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء، وأحب أن ينظر بعد ذلك إلى الكنانيش، فأوفق الكنانيش له الكتاب الملقَّب بـ"التيسير" الذي ألَّفه في زماننا هذا أبو مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إيّاه وانتسخته فكان ذلك سبيلاً إلى خروجه ..."
ومن هنا تظهر قيمة العمل الجماعي في الوقوف على ما هو أهم ومطلوب، ومن ثم تكميل النقص، وإثراء العلم، وتقدم الأمة !!
البداية من حيث انتهى الآخرون:
وغير "العمل في فريق" هناك أيضًا خاصية مهمة في ضمان خروج العمل في أفضل صورة ممكنة، وهي خاصية "البدء من حيث انتهى الآخرون".
فكل حضارة معتبرة لم تبدأ أبدًا من الصفر، وإنما تبدأ من حيث انتهى سابقوها، ولو بدأت كل حضارة في مضمار العلوم من الصفر لما ازدهرت أي حضارة، ولما وصلت حضارة اليوم إلى ما وصلت إليه من هذا التقدم العلمي المذهل.
وقد ارتكز المسلمون في نهضتهم على الحضارات التي سبقتهم، من فرعونية وإغريقية ويونانية وفارسية، واستطاعوا بعد ذلك أن يواصلوا العطاء والتقدم الذي ابتدأه من سبقهم، وقد قدموا في ذلك للإنسانية -وللنهضة الأوربية بصفة خاصة- أجل ما يمكن أن تفخر به!!
وعلى هذا فإن ما نريده اليوم هو أن نبدأ من حيث انتهى أو من حيث يقف سابقونا؛ إذ هي سنة قيام الأمم والحضارات، واللاحق في ذلك يبني على السابق.
وأمّا في العلوم الشرعية فلا تعتمد حضارتنا أبدًا على حضارات أخرى؛ فديننا مكتمل وشرعنا تامّ، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ومع ذلك ففي مجال التصنيف والتأليف يمكن أن يكمل عالم جهود علماء سابقين، وبذلك تستفيد الأمة، وتكتمل العلوم.
المجموع شرح المهذَّب:
وقد قام الإمام النووي رحمه الله -على سبيل المثال- بالبدء في تصنيف كتاب (المجموع شرح المهذَّب)، ولكنه مات ولم يتمّه؛ فجاء الإمام السبكي رحمه الله، وابتدأ في إكمال الشرح، ومات أيضًا قبل أن يتمه؛ فجاء الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وأكمل ما بدأه الشيخان من عمل.
ولو حاول كل واحد ممن أتوا بعد الإمام النووي أن يصنف شرحًا خاصًا به، فترى كم كان يضيع من الزمان، وكم كان يضيع من علم لعالم مثل النووي، وكم كان يضيع من استفادة يستطيع اللاحقون أن يبنوا عليها ؟!
تفسير الجلالين :
ومثلما فعل هؤلاء فعل أيضًا جلال الدين السيوطي في تفسير القرآن المسمَّى بـ "تفسير الجلالين"، وهذه التسمية جاءت نسبة إلى مؤلِّفيه الجليلين: جلال الدين المحلِّي، وجلال الدين السيوطي؛ وهو من التفاسير القيِّمة المفيدة، التي لاقت انتشارًا واسعًا بين المسلمين.
فقد بدأ الإمام جلال الدين المحلِّي رحمه الله، وهو من العلماء البارزين في القرن الثامن الهجري، بتأليف هذا التفسير من سورة الكهف، وانتهى به إلى سورة الناس، وعندما شرع في تفسير سورة الفاتحة وما بعدها وافته المنيَّة، فجاء الإمام السيوطي من بعده، وهو من علماء القرن التاسع الهجري، فشرع في تكميله، واستطاع أن يتمه إلى نهاية سورة الإسراء.
وبهذا العمل اكتمل هذا التفسير العظيم، والذي كان له من القبول والنفع الكثير، وبه حُفِظ علمٌ من الضياع، كما حُفظ وقتٌ ثمينٌ من أن يُهدر.
وغنيٌّ عن البيان أنه لكي يقبل عالمٌ أن يتعاون مع الآخرين ويأخذ منهم ويعطي لهم، لابد أن يكون متواضعًا متجردًا، لا يبغي نفعًا شخصيًّا ولا مصلحة ذاتية، ولو توفَّر لدينا هذا النوع من العلماء، فهذه -واللهِ- هي أولى خطوات الرِّيادة !!
- الكاتب:
د. راغب السرجاني - التصنيف:
تاريخ و حضارة