ما الجمال؟ الجمال ما وافق في النفس لذة؛ تتأتى من منظر في الطبيعة، أو من النفس الإنسانية، أو عمل فنيّ؛ فيتراقص القلب طرباً، وتتأثر النفس سروراً.
عندما ركّب الخالق الذوق والإحساس الجماليّ في النفس البشرية؛ أنعم علينا بهذا الشعور، فالنفس بذاتها حديقة غنّاء؛ بما تحتويه من مشاعر وأحاسيس، تتذوق كل ما هو جميل.
وعند الحديث عن الجمال؛ أول ما يتبادر إلى الذهن: الطبيعة الخلابة، من حدائق ذات بهجة، وبحار ومحيطات، وسهول ووديان، والشمس المتوهجة، والسماء الصافية، والقمر المنير، والكواكب تزين جو المساء في ليل داج.
والإنسان يستشعر الجمال من خلال آلات خلقها الله له؛ كالعين والأذن وغيرها من حواس.
وأكثر ما يشعر الإنسان بجماله هو القوة؛ قوة الجمال، وجمال القوة..
فتأمل: لماذا نشعر بجمال صنيع الأنصار لإخوانهم المهاجرين بقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فقوة الإيثار، والخروج عن المألوف أضاف جمالا للفعل حتى أخذ بمجامع القلوب؛ لذلك كانت الأخلاق كلها جمالاً.
فجمال الصدق؛ أنّ الإنسان يأتيه حتى لو جرّ عليه مصيبة.
وجمال الوفاء؛ أن الإنسان يفي بوعده حتى لو كان فيه حتفه.
كذلك هي الأخلاق جميلة بمجملها؛ لأنها تجعل الإنسان يعيش في مدينة فاضلة، لم يتخيل جمالها حتى أفلاطون في مدينته.
وإذا كانت الأخلاق جمالاً؛ فأجمل الناس نبي الله محمد؛ الذي قال الله له: (وإنك لعلى خلق عظيم) فوهبه الله جمال الخُلق والخِلقة.
وكذلك إذا كانت آله السمع الأذن؛ تطرب لسماع الأصوات العذبة، والموسيقى الرائقة التي يجد الإنسان عذوبتها في فؤاده؛ فحينما تسمع صوت العندليب وقت الضحى! وصوت البحر في ليلة ذات نسيم عليل، ووقت الدجى
وكأن الزمن، واستحضار النفس من شروط الجمال؟
كن جميلاً ترى الوجود جميلاً، استحضار الجمال في النفس ضرورة ، وإن كان يطالب الإنسان أن تكون نفس الإنسان من الجمال؛ بحيث تعكس جمالها على الكون، فبعض النفوس لها هالة من الجمال، تغمر كل من تلاقيه.
فالكون خلق من طينة الجمال، والنفس التي أفلح صاحبها بتزكيتها من طينة الجمال.
وأجمل ما يمكن أن تطرب له نفس المؤمن سماع القرآن الكريم، ولكل مؤمن قارئ يطرب له؛ فالأذواق ليست واحدة؛ ولكنها تتفق على أن موسيقى القرآن لا يدانيها موسيقى، وهي لست للمقارنة بأي إيقاع؛ فالقرآن عزف منفرد، يجعل الإيقاع في القلوب؛ ليفيض بعدها سلوك، ولكنه ليس أي سلوك، سلوك سبك من الذهب؛ فحيثما وقع نثر من عبيره، وفاح على الكون شذاه!
كان رسول الله، ومن بعده صحابته لا يملكون دموعهم؛ حينما يسمعون آيات الله تتلى، وكان إيقاعه يشبه السحر على مسامعهم وقلوبهم.
وإن للقرآن لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (أي أن له ألفاظاً لها جرس جميل، وإيقاع خلاّب) شهادة الوليد بن مغيرة؛ الذي برغم تدسية نفسه إلا أن أذنه الموسيقى التي وعَت جمال التعبير، ورصانته، لم تخنه في هذا الموقف الجلل.
والجمال الأدبي والتعبيري كذلك كان، ولا يزال يفعل فعله إلى يومنا هذا.
فحينما ترى الطفل الصغير يخطب ببلاغة تجد جمالاً؛ لعدم توقع الفعل من الصغير، ولو سمعته من الكبير لكانت درجة الجمال أقل.
وفي قصة وفد التهنئة الذي قدم على الخليفة عمر بن عبد العزيز؛ حيث تقدم الوفد أصغرهم، فلما همّ بالكلام قال له عمر: ليتكلم من هو أسنّ منك، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فأجازه عمر، وللقصة بقيه؛ تجعل كل من يقرأها يشعر بجمال العقل الوافر، والتعبير الرصين لطفل لم يكد ينبت شارباه.
وكثير من العلماء يرى الجمال في الفكر؛ فإرخميدس كان للمعان الفكرة في رأسه جمال، لا يدانيها جمال؛ أي طبيعة ساحرة، والعالم النحرير عندما يقع على فكرة عميقة، أو نص لم يقع عليه من قبل؛ يرقص فرحاً حتى أنه يهمّ أحياناً أن يكافأ نفسه، ومن حوله على اكتشافه.
لا يزال الأدب والشعر يزداد بريق جماله منذ القدم إلى يومنا الحاضر، وإن جمال الكلمة والحرف كانتا سبباً في تهييج الحروب وردمها، وفي رفع أقوام ووضع آخرين.
فكما يُذكر أن قوما يكنّون بأنف الناقة، كانوا يذوبون خجلاً من اسمهم؛ حتى جاء الحطيئة الشاعر المعروف فقال فيهم:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فأصبح القوم إذا ذكروا تاهوا فخراً؛ فبكلمة تحول الاسم من منقصة إلى فخر وعز لتلك القبيلة.
واليوم الكلمة لا تزال تفعل فعلها؛ فمن لا يمتلك تلك الأدوات لا يستطيع أن يقنع الناس بجمال فكرته؛ حتى وإن كانت فكرته غير جميلة، إلا أن الجمال -كما قلنا- أذواق.
هذا الكون الجميل؛ الذي كأنه عقد نضيد بسمائه وأرضه، ونجومه وبحاره ومحيطاته، وهذا الحيوان بجميع أطيافه في البر والبحر وفي جو السماء، وهذا الإنسان الذي خلق الله فأحسن خلقه، وجعل له العينين اللتين تبصران كل هذا الجمال في الطبيعة، وفي الكون وفي الإنسان.
كل ذلك الجمال في الوجود ليدلك على جمال الخالق (الجميل).
وفي الحديث: [إن الله جميل يحب الجمال] فسبحان من أبدع الجمال (صنع الله الذي أتقن كل شيء) (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
- الكاتب:
طارق البرغوثي - التصنيف:
تاريخ و حضارة