الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السعادة ...بين الحقيقة والسراب

السعادة ...بين الحقيقة والسراب

السعادة ...بين الحقيقة والسراب

ما هي السعادة؟!
هل تظن أنه سؤال عجيب؟! ولكني أختلف معك تمامًا؛ حيث أن الناس كلهم قد اختلفوا في تعيين ماهية السعادة، ومتى يمكن أن نصف إنسانا بالسعيد، فقال الدكتور ناصر العمر أنها: (ذلك الشعور المستمر بالغبطة، والطمأنينة، والأريحية، والبهجة، وهذا الشعور السعيد يأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير) [السعادة بين الوهم والحقيقة، د.ناصر العمر].
أما علماء النفس فلهم رأي آخر في تعريف السعادة، يضيف معاني ويغير أخرى، فالسعادة عندهم هي: (الشعور باعتدال المزاج، وهي الشعور بالرضا والإشباع، وطمأنينة النفس وتحقيق الذات، والشعور بالبهجة، واللذة والاستمتاع، وهي باختصار: الشعور بالرضا الشامل) [سيكولوجية السعادة، مايكل أرجيل].
وإن اختلفت الألفاظ والتعبيرات ولكن المعنى واحد؛ وهو أن سعادتكِ هي شعورك بالرضا والاطمئنان والسلام الداخلي، فهذه هي السعادة، ولكن ليس هذا ما يهمنا بشدة، إنما الذي يشغل بال الواحد منا: (كيف أصل إلى السعادة؟!)، وللأسف الشديد اتخذ الكثير من الناس طرقًا ظنوها تؤدي بهم للسعادة، ولكنها كانت إلى الشقاء والتعاسة أقرب.

هل السعادة في المال؟!
هل تعرفون كرستينا أوناسيس؟ ابنة الملياردير اليوناني أوناسيس، والتي ورثت عن أبيها المليارات من الدولارات، ولكنها عاشت حياة وصفتها بالشقاء، حين سُئلت: (هل أنتِ أغنى امرأة في العالم؟)، فقالت: (نعم، أنا أغنى امرأة في العالم، ولكني أشقى امرأة في العالم أيضًا)، فبعد وفاة أبيها، تزوجت أمها من رجل آخر وعاشت حياة مأساوية انتهت بطلاقها، ومات أخوها في حادث طائرة!!
وتزوجت هي أربع مرات من أربع دول مختلفة وثقافات متباينة؛ من اليونان، وفرنسا، وروسيا، وأمريكا، وهي تبحث في ذلك عن السعادة رغم ما تملك، حتى انتهت حياتها حين وُجدت ميتة في شقة بالأرجنتين، وحيدة شريدة، وهي لم تبلغ بعد السابعة والثلاثين من عمرها، فهل أغنى عنها مالها شيئًا؟! [السعادة بين الوهم والحقيقة، د.ناصر العمر].
فأصحبت حياتها كما يقول الشاعر:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد

هل السعادة في الجاه والسلطان؟!
هل تعرفون المعتمد بن عباد؟ هذا الذي تربى في قصور الأندلس الإسلامية في ظل الترف والنعمة، وورث الجاه والمجد أبًا عن جد، حسب أن الجاه والصيت سيمنحانه السعادة، فعاش سنين يتمرغ فيهما، ولكن تدور الأيام عليه من بعد هذا العيش الرغيد والسلطان العتيد، ليُطرد من سلطانه، ويُنفى في صحراء الأندلس.
ليعيش بعد ذلك في منزل متواضع لم يألفه، يخدم نفسه بنفسه، بعد أن كان قصره يعج بمئات الخدم، ظل في هذه الحالة حتى مات وحيدًا شريدًا غريبًا، حتى لما صلى عليه الناس لم يعرفوه، فأخذوا يدعون إلى الصلاة قائلين: (الصلاة على الغريب! الصلاة على الغريب!) [انظري: الوافي بالوفيات، الصفدي، (1/373)].

هل السعادة في نيل الشهوات؟!
بعض الناس يظن أن السعادة هي الانتقال من متعة إلى أخرى، ومن نشوة إلى ثانية، وكلما تقلب الإنسان بين شهواته كلما كان أكثر سعادة بين الناس، ولكن هل هذا حقيقي؟!
لا أبدا فهناك فارق كبير للغاية بين السعادة واللذة أو المتعة؛ (والفرق بينهما في أن اللذة تقطف قطفًا وتذهب نشوتها فورًا بعد الانتهاء من قرينتها، وربما حصلت بعدها ندامة وتعاسة ما بعدها تعاسة، وأما السعادة فتبقى تصاحب صاحبها فترة ليست بقليلة) [حقيقة السعادة، عبد اللطيف البريجاوي]، فأخطأ الطريق من ظن أن سعادته في إشباع شهواته.

إذًن السعادة في الراحة:
أخالك تراه تفكيرًا عجيبًا؛ أن تكون السعادة في الراحة ... ولكن للأسف هناك الكثير من الناس من يظن أن السعادة في الراحة ... في كثرة النوم وعدم تحمل المسئوليات من دراسة أو عمل أو ما شابه، فهذه هي السعادة لديها، ولكن الحقيقة أنها سعادة مزيفة.
يرفع لنا الرافعي الغطاء عن هذه الحقيق بقوله: (ليست السعادة في الراحة والفراغ ولكنها في التعب والكدح والمشقة حين تتحول أيامًا إلى راحة وفراغ) [وحي القلم، الرافعي، (42/1)].
ونظم هذه الحقيقة الشافعي شعرًا بقوله:
أأبيت سهران الدجى وتبيتُه نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي

دعائم السعادة الحقيقية:
أسمعك تسأل: إذًا كيف السبيل إلى السعادة؟
وإليك أهدي خلاصة ما اتفق عليه علماء وكتاب المسلمين وحتى غير المسلمين في مسألة السعادة، فاعلم أولًا في البداية أن السعادة لها شرط ومجموعة مقومات، وإليك مفاد كلامي:

شرط السعادة ـ لا سعادة إلا في كنف طاعة الله تعالى:
إن كنت تبحث عن السعادة؛ (تلك الغاية الغالية التي يشترك الناس جميعًا في طلبها والسعي لتحقيقها؛ بجمع المال من حله وحرامه تارة، وبإهلاك الصحة والوقت في تناول الشهوات من الحرام تارة أخرى؛ فدعني أسألك، كم سنة عشتها وأنت بعيد عن ربكِ؟ كم مرة نلت فيها ما اشتهته نفسك مما حرم الله تعالى؟ كم اقترفت من الزلات بحثًا عن السعادة؟ فهل ذقت حقًّا طعم السعادة الحقيقية؟!) [هزة الإيمان، فريد مناع].
فإن الإنسان مهما أوتي من زينة الحياة الدنيا، ومهما ملك وحاز من أسباب السعادة؛ فإنه لن يستطيع أن يحوز السعادة طالما كان بعيدًا عن طريق الله تعالى؛ ذلك لأنه (في القلب شعث لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأُنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها؛ لم تُسد تلك الفاقة منه أبدًا ) [مدارج السالكين، ابن القيم، ص(743)، بتصرف].

فالسعادة الحقيقية كتب الله تعالى أن لا ينالها إلا من عرفه سبحانه وتعالى، وسلك طريقه، فهو سبحانه الذي يملك القلوب، وهو القادر أن يَسكُب السعادة في قلبكِ سكبًا، كما وعد سبحانه؛ فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل: 97 ].

المقوم الأول ـ الاتساق الداخلي:
أعني بهذا الاتساق أن يستوي ظاهرك مع باطنكِ، فمن (أهم أسباب السعادة أن يتحقق التناغم بين ما يعتقده الفرد وبين ما يقوم بتطبيقه؛ فليس عنده ما يعيق تطبيق ما يؤمن به ويعتقده وهذا الأمر عبر عنه الله تعالى بالمقت؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]، فكلما اقترن القول بالفعل لم يكن عند الإنسان عُقد في حياته فيقترب أكثر فأكثر من السعادة)

المقوم الثاني ـ مفتاح السعادة التفاؤل:

فباب السعادة لا يمكن أن يدخله من كان يرى السواد في كل شيء، والفشل في كل أمر، فهذا أبعد ما يكون عن السعادة، وإنما مفتاح ذلك الباب هو التفاؤل؛ فغالبًا (لا يسد باب إلا ويفتح مقابله أبواب، ولكننا دائمًا ننشغل بالباب المغلق عن الأبواب التي فتحت.

فسرطان السعادة القاتل هو اليأس، والترياق الناجع هو التفاؤل، ولم يعرف التاريخ تفاؤلًا كما عرفه العرب والمسلمون؛ فالإسلام جاء ليضفي السعادة على البشر جميعًا فكانت تعليماته كلها تصب في بحر التفاؤل.

المقوم الثالث ـ صحة العلاقات الثلاث
:
(إذا اعتبرنا أن مجمل علاقات الإنسان تكون في اتجاهات ثلاثة: علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان مع المحيط الذي يعيش فيه، فإن السعادة تكمن في حل هذه المعادلات الثلاث وإيصالها إلى درجة التوازن؛ والتعاسة تصل إلى الإنسان من خلال اضطراب في إحدى هذه المعادلات الثلاث).
فالسعيد هو من ينجح في علاقته مع ربه سبحانه وتعالى؛ ويكون ذلك عبر استقامة الجوارح والقلب ظاهرًا وباطنًا، بالمواظبة على الواجبات واجتناب النواهي.

والسعيد أيضًا هو من ينجح في علاقته مع نفسه؛ فيكون ناجحًا في عمله وفي دراسته وفي كل جوانب الحياة التي يخوضها.
وتمام السعادة هو النجاح في العلاقة مع الآخرين؛ فبناء العلاقة الطيبة مع الزوج ومع الأسرة والأهل والأصدقاء، هي من متممات السعادة الحقيقية.
والدليل على ذلك أنه من أحد تعريفات علماء النفس للسعادة: (أن يجد الإنسان نفسه ويتصالح معها؛ لذلك كان من أهم أسباب التعاسة أن الإنسان لا يجد نفسه ولا يعرف أين موقعه في المجتمع ومن هو؟ وما هي مكانته؟ وماذا يستطيع أن يقدم؟) [حقيقة السعادة، عبد اللطيف البريجاوي].

المقوم الرابع ـ السعادة في شكر النعم:
فما استجلب عبد الرضا والسعادة كما يستجلبها بالشكر، فالعبد الذي يكثر من شكر الله تعالى على نعمه بلسانه وبقلبه حقيق؛ يقذف الله في قلبه الرضا والسعادة بما أعطاه وقسمه له، لذلك من (أحد المشاكل التي يعاني منها البشر اليوم أنهم يفكرون بما ينقصهم ولا يفكرون بما يملكون؛ فالإنسان يملك الكثير والكثير من مقومات السعادة)
وصفة السعادة:
(جناحا السعادة: الزواج الناجح والأصدقاء المخلصين.
قلب السعادة: الرضا بالقضاء.
رأس السعادة: العمل المنتج الدائم.
رئة السعادة: النجاح.
يد السعادة: العطاء.
قمة السعادة: لقاء الله وهو راضٍ عنك) .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

من وظائف الأدب

كان ولا يزال للأدب دور محوري في حياة الشعوب، فالأدب أحد أعمدة البناء في المجتمعات كلها، فقد عرف الإنسان الحداء،...المزيد