الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رجل القول ورجل العمل

رجل القول ورجل العمل

رجل القول ورجل العمل

من الجدير بالذكر أن الإسلام انتشر في الهند وإندونيسيا وكثير من بلاد جنوب شرق آسيا عن طريق التجار لا العلماء والفتوح العسكرية، وذلك لما رأى أهل هذه البلاد في تجار المسلمين من الأسوة والقدوة السلوكية والأمانة والصدق.

فالدين الحقيقي لا ينتشر ولا يزدهر إلا بالقدوة أولا، قدوة السلوك والعمل؛ ولذلك فإن الله سبحانه وضع امتحانا للدين في قلوب الناس، وهذا الامتحان هو نعيم الدنيا وزخرفها.

فإذا أردت أن تعرف أي دعوة من مبادئها، هل هذه المبادئ تنبع عن عقيدة وإخلاص أم عن زيف وخداع، فلا تنظر إلى الأمر في أوله حين يكون القائمون عليه لا يملكون شيئا، بل انظر إليه بعد أن ينتصر ويملك أسباب الدنيا، فإذا وجدت انحرافا عن هذه المبادئ وتخطيا لها وتجاهلا فاعلم أنما هي دعوة أهواء وشهوات، عارضتها المبادئ فطرحوها وتخلصوا منها.. وهذا يحدث في جميع الثورات والانقلابات في العالم التي يدعي أصحابها أنهم يريدون الإصلاح؛ لذلك تجدهم بعد فترة قد انحرفوا عن مبادئهم، وأنه لابد من تصحيح مسار الثورة.. لماذا؟ لأنها كانت من أجل الدنيا، ومن أجل الوصول إلى الحكم وليست من أجل الإصلاح ولا إقامة شرع الله في الأرض.

أما دعاة الحق فإنهم يدعون ويتحدثون عن منهج الله الذي رسمه سبحانه للحياة في الأرض، وهو المنهج الذي لن يصلح الكون إلا إذا تم تطبيقه، ولا يطبق إلا إذا وجد من يؤمن به يعمل بمنهاجه؛ لذلك كانوا قدوة في القول والفعل، وكذلك كان إمامهم وسيدهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم.

لقد كانت لفتة عظيمة في حياته صلى الله عليه وسلم حين عرضت عليه قريش المال والحكم، وكل نعيم الدنيا في أول الدعوة، ولو كان عليه الصلاة والسلام يقصد بدعوته الدنيا لوافق على هذه المغريات العظيمة التي عرضت عليه، ولكنه رفض بلا تردد ودون لحظة تفكير، وكانت حياته عليه الصلاة والسلام في أول الإسلام هي نفس الحياة التي عاش بها بعد أن انتشر دينه وأصبحت له دولة، لم يملأ بيته بفاخر الطعام ولا بنى قصرا ليسكن فيه، ولا جمع مالا في يملأ الخزائن، ولكنه ظل يعيش في نفس البيت المتواضع، وفي أيام كثيرة لا يكون عنده طعام يكفيه؛ فدل هذا أعظم دلالة على صدق ما كان يدعو إليه.

أمال عريضة ونفوس عظيمة
إننا كي نحقق الآمال الكبار التي ننشدها في حاجة إلى أصحاب النفوس العظيمة ذات الإرادة القوية، والوفاء الثابت والإيمان الصادق والتضحية العزيزة؛ ذلك أن مسؤولية الدعاة تجاه أنفسهم أضخم بكثير من مسؤولياتهم تجاه المجتمع، وخطورة التقصير فيما للدعاة على أنفسهم من واجبات يفوق خطورة التقصير فيما للمجتمع عليهم من حقوق، فالدعاة ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون الناس إليها، وترسم في خطاهم ملامح المبادئ التي يحملونها.

تحذير الدعاة
وقد صفع القرآن أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون، وينهونهم ولا ينتهون فقال: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
يقول صاحب الظلال عند تفسير هذه الآية: "ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.

إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!.

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك ـ لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتهاـ وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.

إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة. (انتهى من الظلال:1/ 114)

فلابد للدعاة أن يترسموا خطى الدعوة في كل شأن من شئونهم في أقوالهم وافعالهم، في حياتهم الخاصة والعامة لا يفرقون بينهما، فهم صادقون مع أنفسهم كأفراد، وفي بيوتهم كأزواج وآباء، وفي مجتمعاتهم كعمال أو أرباب عمل أو موظفين، ورضوان الله على علي بن أبي طالب حين قال: "من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم".

غير أننا نقول: إنه لا يمكن للداعي أن يكون قدوة وأسوة فيما يقول ويعمل، وأن يكون قرآنا يتحرك إلا إذا وثق صلته بالله، واستمد العون منه، وأصبحت {إياك نعبد وإياك نستعين} هي منهاجه ونبراسه، حينئذ يهديه الصراط المستقيم، ويعينه على لأواء الطريق، فيرى فيه الناس صدق ما يقول، فيفتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
والله الموفق، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ يراجع كتاب الدعوة لجمعة أمين.
ـ في ظلال القرآن.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

اقتضاء العلم العمل

أفضل الفضائل تحصيل العلم، وطلب الزيادة منه أمر رباني {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، وقد ميز الله أهل العلم...المزيد