الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معالجات نبوية للعصبية

معالجات نبوية للعصبية

معالجات نبوية للعصبية

العصبية قد تكون مشكلة اجتماعية حين تقوم على أساس جاهلي، سواء كانت عصبية قبلية، أو دينية، أو جغرافية، أو عرقية، وقد جاء الإسلام بتهذيب تلك العصبيات، وإذابتها تحت مبدأ التعاون على البر والتقوى، ورفض ما سوى ذلك مما كان عليه العربي قبل الإسلام من التعصب لبني نسبه ولو لمواجهة الحق والعدل، وهذا من حكمة هذا الدين وقدرته على إدارة هذه التنوعات، واستيعابه لكل النزعات الإنسانية التي تعتبرجزءا من تركيبته وطبيعته، فلا يمكن لأي قوة أن تنزع منه عصبيته لنسبه، أو بني عمومته، أو موطنه الذي ولد على ترابه، وإنما هو التهذيب والتوجيه، بما لا يتناقض مع انتمائه الكبير للإسلام.

لقد أعيدت صياغة المجتمع المسلم يومئذ تحت مسميات إسلامية جديدة مبنية على مراتب دينية عالية، فالهجرة والنصرة تصنيف للمجتمع يدعو لمزيد من الألفة والتقارب، فالمهاجر الذي ترك أهله وماله وداره لأجل الله، كان في استقباله أخوه الأنصاري الذي قام بفريضة النصرة والإيواء، فالتحم المجتمع يومئذ على هذا الأساس المتين، والرباط الوثيق، وانبنت عليه حقوق الولاء والحماية والنصرة.

ثم إن تصنيف الهجرة والنصرة داخل تحت تقسيم أعلى وأجلى، وهو المبني على الأولية والسابقة، فمن آمن مبكرا في مكة حين كانوا قلة مستضعفين في الأرض، ليسوا في الرتبة كمن آمن بعد ذلك، والجميع راضون مرضيون، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة: 100.

وبهذا أصبح العربي في ظلال الإسلام أمام فرز جديد، تتلاشى أمامه كل اعتبارات الجاهلية، بحيث يتحصل كل واحد منهم على وسام شرف حقيقي، فهذا مهاجري، وهذا أنصاري، وهذا بدري، وهذا من السابقين، وهذا من التابعين بإحسان، كل بحسب بذله وتضحيته، لا بحسب نسبه وعصبته، كما في الحديث عن أبي هريرة، قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة بن كعب، يا بني عبد شمس، ويا بني عبد مناف، ويا بني هاشم، ويا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، ويا فاطمة أنقذي نفسك من النار، إني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلُّها ببلالها" رواه النسائي، وأصله في الصحيحين.

وليس بغريب أن يستجيب العرب لهذا الرابط الإيماني، فنزعة التدين مغروسة في نفوس الأمم، وقد كانت كالمنقذ لهم من حياتهم البائسة القائمة على أسس جائرة، ولابن تيمية كلام يقرر فيه شيئًا من هذا، يقول بعد كلام عن الأنبياء وفضلهم على البشرية في كتاب "الصارم المسلول": (ويقال هنا: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس)، كما يقرر ابن خلدون المعنى نفسه حيث يقول في المقدمة: (الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق).

وقد كان إنجازا عظيما حين استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع العرب على رابط واحد، سيما وهم يومئذ شذر مذر، لا يربطهم إلا كونهم عربا، فوجههم نحو رابطة الإيمان، وسوى بينهم تحت سلطة الإسلام، وأبقى تلك الروابط القبلية رديفة ومقوية لرابط الإيمان، وظل مراقبا يحارب كل السلوكيات التي تنم عن بقاء رواسب الجاهلية، ونذكر على سبيل المثال المواقف والتوجيهات النبوية التالية:

الأول: حديث جابر، قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا، حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يال للأنصار؟، وقال المهاجر: يال للمهاجرين؟، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوها فإنها خبيثة)، وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث - لعبد الله - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه). وفي رواية: (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل القود؟ فقال: دعوها، فإنها منتنة).

وفي رواية لمسلم: (اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر - أو المهاجرون - يال للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يال للأنصار، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ما هذا، دعوى الجاهلية؟) قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، فقال: (لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره). أخرجاه في الصحيحين.

يقول الوزير ابن هبيرة في كتاب الإفصاح: "وكسع: بمعنى ضرب دبره بيده أو رجله، وتداعوا: استغاثوا بالقبائل إلى الآباء يستنصرون بهم في ذلك، والدعوى: الانتماء، وكانت الجاهلية تنتمي في الاستعانة إلى الآباء فيقولون: يا آل فلان، وذلك من العصبية، وإنما ينبغي أن يكون الاستعانة بالإسلام وحكمه، فإذا وقعت بغيره فقد أعرض عن حكمه.

وفيه أيضا أن دعوى الجاهلية، وقول القائل: فلان يجيب؟ تكون إجابة الداعي لأجل الأنساب أو الدار أو الحال الجامعة مع الإعراض عن ذكر الله تعالى، وأن يكون إجابة الداعي لأجله وفي سبيله من جملة الكلم الخابث، فينبغي أن لا يقر على ذلك قائل يقول شيئا منه". انتهى

الثاني: حديث المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» أخرجاه في الصحيحين.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حاضر التنبيه والتوجيه في كل موقف تظهر فيه رواسب العصبيات الجاهلية، وقد نال أبو ذر حظه من التوجيه والتأنيب، وزجره عن التعيير، وأخبره أن هذا من الموروث الجاهلي المتبقي عنده، وأن عليه السعي في التخلص منه، وقد فعل رضي الله عنه بهذا التوجيه النبوي، فألبس غلامه حلة كما لبس هو حلة، إمعانا منه في تطويع نفسه لرابطة الإسلام، واجتثاث ما تبقى من عصبيات الجاهلية العمياء.

الثالث: حديث جابر في خطبة حجة الوداع، قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع دماءنا: دم ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، فأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب, فإنه موضوع كله". رواه أبو داود وغيره.
وهنا يقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفه الأخير ليؤكد الحكم النهائي الأخير في إلغاء نعرات الجاهلية، وآثارها الاجتماعية من الثارات القبلية، وآثارها الاقتصادية من الربا المضاعف الذي اشتهر فيهم قبل الإسلام، وكأنه صلى الله عليه وسلم يختم جهوده الإصلاحية بالتأكيد على مفارقة الجاهلية، وتعميق رابط الأخوة الإسلامية.

الرابع: ما جاء في صحيفة المدينة التي اختطها النبي صلى الله عليه وسلم كوثيقة منظمة للعهد الإسلامي الجديد، ومما جاء فيها: «المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس». وفيها: «هؤلاء المسلمون جميعا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين». والعاني: الأسير.
ونص الصحيفة من مرويات أهل المغازي والسير، كابن إسحاق، وغيره، ورواها البيهقي في السنن من مراسيل ابن شهاب الزهري، واحتج بها أهل العلم، منهم ابن تيمية رحمه الله حيث قال عنها: (وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم، روى مسلم في صحيحه عن جابر قال(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتوالى رجل مسلم بغير إذنه). انتهى من الصارم المسلول.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

معالجات نبوية

دور العلماء في علاج ظواهر الانحراف الفكري

الإسلام يحث على التفكير والإبداع في مجالات الحياة كلها، ويثمن النتاج العقلي النافع، ولكن الفكر إذا كان في المجالات...المزيد